ما لم تبدأ عملية الإصلاح السياسي في عهد الرئيس السيسي وعلي يديه.. أشك كثيراً في أنها ستتم في المستقبل المنظور علي يدي غيره في رأيي - وما أكتبه دائماً هو رأيي - أن التراث الأهم لرئاسة السيسي، يجب أن يكون استصلاح التربة السياسية الجدباء في هذا البلد. مصر تستحق نظاماً سياسياً رشيداً مستداماً. أحلم كغيري من المصريين، بيوم أري فيه بلادي تنعم باستقرار سياسي كالذي هو راسخ في الولاياتالمتحدةوبريطانياوألمانيا، علي سبيل المثال. أتمني أن يمتد بي العمر لأري حكاماً يسلمون السلطة لحكام، وحكومات تتسلم الحكم من حكومات، لأري شخصيات وطنية محترمة تتنافس علي مقاعد المسئولية، وأحزاباً قوية تتسابق علي كسب ثقة الناخبين في انتخابات تنافسية تعبر حقاً عن إرادة الناخبين. أظن أمامنا عشر سنوات مرحلة انتقالية لاستصلاح التربة السياسية لحرث الأرض في الفضاء السياسي الفسيح، وغرس البذور والشتلات، وتعهدها بالري والرعاية، حتي تنبت وتثمر، ويحين أوان الجني والحصاد، ويتجدد. عشر سنوات، علي غير ما يحسب البعض، هي مدة زمنية قياسية في عرف الإصلاح السياسي، كالفترة التي استغرقها شق الفرع المزدوج لقناة السويس. هي أشبه بمدة الانضاج داخل جهاز »الميكروويف، يختصر الزمن المفترض في الأفران التقليدية، وتحقيق الغرض، وهو في هذه الحالة تجهيز نظام سياسي مهيأ للاستقرار وقابل للاستدامة. • قلت هنا منذ أسبوعين، إن تداول السلطة في أعقاب ثورة 1952، ظل بقوة السياسة أو بسياسة القوة، مرهوناً بين الجيش وجماعة الإخوان. تلك حقيقة لا تقبل الجدل. لعل أكثر الأمثلة وضوحاً، هو ما جري في ثورة 25 يناير وحتي ثورة 30 يونيو وبيان 3 يوليو. بصراحة، نحن لم نعرف أبداً مبدأ التداول الديمقراطي للسلطة. حتي قبل ثورة 1952، وخلافاً لما يسوَّق ويروَّج، لم يكن هناك تداول حقيقي للسلطة. حزب الوفد وكان حزب الأغلبية الشعبية ورأس حربة الحركة الوطنية، لم يحكم إلا علي فترات متقطعة اجماليها 4 سنوات وبضعة أشهر خلال الفترة الليبرالية من أيام 1923 وحتي عام 1952، بينما الذي حكم كان أحزاب الأقلية وأحزاب القصر والاحتلال. علينا ألا ننسي أن مصر في تلك الفترة كانت تحت الاحتلال البريطاني، برغم الاستقلال الاسمي في عام 1922، وعلينا أن نتذكر أن السلطة الحقيقية كان محلها قصر الدوبارة، مقر السفارة البريطانية. أما قبل عام 1923، رجوعاً إلي فجر التاريخ، فقد كان الحكم في مصر فردياً عضوضاً، لا يعرف سوي الحاكم الإله أو شبه الإله أو نصف الإله، علي مدار سبعة آلاف عام هي عمر التاريخ المعروف لهذا البلد. استطيع أن أكتب سلسلة مقالات معززة بالدلائل علي مساوئ الديمقراطية المباشرة أو النيابية، لكني لا أستطيع أن أنكر أنها أفضل نظام حكم عرفته السياسة. وإذا أردنا نظاماً سياسياً ديمقراطياً مستقراً ومستداماً، قابلا لتحقيق مبدأ تداول السلطة، بين القوي السياسية والأحزاب الوطنية، فأظن أن نقطة البداية لابد أن تكون في هذا العام، من أجل استصلاح التربة السياسية، خلال سنوات الفترة الانتقالية. وأقول بوضوح إنه ما لم تبدأ عملية الإصلاح السياسي في عهد الرئيس السيسي وعلي يديه، فأشك كثيراً في أنها ستتم في المستقبل المنظور علي يدي غيره. ليس فقط لأن الرجل مشهور بخوض الدروب الصعبة، ومشهود له بتحقيق انجازات هائلة في أزمنة قياسية، لكن لأنه يؤمن -وأنا عليم بما أقول- بأن هذا البلد يستحق نظام حكم ديمقراطي مستقر ومستدام يليق بشعبه. أذكر في لقاء لرؤساء تحرير الصحف القومية مع الرئيس السيسي يوم 15 مايو عام 2017، وكنا نتحدث مع الرئيس عن الديمقراطية والانتخابات، أنه أشار إلي انتخابات الرئاسة الفرنسية ومشهد تسليم الحكم في قصر الإليزيه من الرئيس السابق فرانسوا أولاند، إلي الرئيس المنتخب إيمانويل ماكرون. وخروج أولاند من القصر في أمان، بينما ماكرون يودعه في لطف وتقدير. وقال لنا الرئيس يومها: كم أتمني أن أري هذا المشهد في مصر. ويقيني أننا سنري هذا المشهد -بمشيئة الله- عندما يحين موعد انتهاء رئاسة السيسي. لعل جزءاً من هذا نلمسه في الاحتفالات القومية، عندما نجد السيسي حريصاً علي دعوة المشير حسين طنطاوي رأس الدولة في أعقاب ثورة 25 يناير، والمستشار عدلي منصور رئيس الدولة في أعقاب ثورة 30 يونيو. أذكر أيضا قبل ذلك بأكثر من خمس سنوات، وكنت في لقاء خاص مع اللواء السيسي مدير إدارة المخابرات الحربية، وتطرق الحديث إلي انتخابات رئاسية لابد أن موعدها سيحين بعد ذلك بأشهر، وقال لي حينئذ: أعتقد أن جزءاً من دوركم هو البحث عن شخصيات وطنية محترمة لخوض انتخابات الرئاسة، قادرة علي قيادة بلد بحجم مصر. وأضاف قائلاً: إنني أتمني أن يكون رئيس مصر المقبل، شابا في سن الأربعينيات، أستاذاً جامعياً مرموقاً له اسهام واضح في الحياة السياسية، ويا ليته يكون متخصصاً في الاقتصاد. وقتها أنصت إلي اللواء السيسي، وفتشت في ذهني لأطابق ما يقول علي ما هو موجود، فلم أجد! وأظن السيسي كان يتمني أن يكون الرئيس المقبل، مدنياً من خارج النخبة السياسية العاجزة، ومن خارج قوي الفاشية الدينية المتسيسة. كل شيء بأوان. هذا العام في رئاسة السيسي الثانية، هو أوان حرث الأرض السياسية التي سمحت بإنبات الفاشية الدينية. هذا أوان البدء في استصلاح التربة السياسية. نقطة البداية، كما أسلفت في مقالين سابقين وأوضحت وفصَّلت، هي التعديلات الدستورية. أما خط الانطلاق، فهو تشجيع القوي السياسية وتحفيز الأحزاب ودعم كل التنظيمات المنتخبة بدءاً من البرلمان ونزولاً إلي أحدث مركز شباب في أصغر قرية. لدينا في مصر 104 أحزاب. البعض يحاول تقليصها ويدعو إلي سن تشريع يلغي الأحزاب غير الممثلة بالبرلمان، ويستشهد بالدول الكبري كأمريكا وبريطانيا وغيرهما معتقدا أن بالولاياتالمتحدة حزبين وأن في بريطانيا 4 أو 5 أحزاب بينها حزبان كبيران. واقع الأمر أن في بريطانيا 492 حزباً، وفي فرنسا 408 أحزاب، وفي الولاياتالمتحدة 32 حزباً. مصر ليست استثناءً إذن. الفرق أن الدول الديمقراطية الكبري والعريقة في ديمقراطيتها، بها عشرات الأحزاب بلا وزن ولا قيمة، لكن بها أيضاً حزبين كبيرين أو ثلاثة أو أربعة، لها شعبية واسعة لدي الناخبين، وتضم كوادر عديدة قادرة علي ملء المناصب الوزارية والتنفيذية بكفاءة وقيادة هذه الدول الكبري بمهارة، فضلاً عن أن تلك الأحزاب هي في واقع الأمر معاهد سياسية لتفريخ قيادات شابة علي مستويات عديدة بما يجعل الحياة السياسية مزهرة باستمرار ومتجددة الدماء. أما في مصر، فليست لدينا أحزب كبري أو حتي متوسطة. قد يكون لدينا أسماء لامعة لأحزاب، كالوفد تحديداً، الذي نحتفل هذا العام بمرور مائة عام علي تأسيسه، لكن لا توجد عندنا أحزاب تستقطب مئات الآلاف -ولا أقول الملايين- في عضويتها، وتستطيع الحياة والاستمرار والمنافسة مع غيرها، لاسيما عند تغيير النظام السياسي أو عند تجديد السلطة داخل النظام السياسي. أظننا بحاجة إلي مؤتمر قومي سياسي يضم الأحزاب للحديث عن مستقبل التعددية والحياة الحزبية. أظن مناسبة مرور مائة عام علي تأسيس الوفد المصري، فرصة سانحة لهذا الحزب، لدعوة الأحزاب ذات الفكر والتوجه السياسي المشابه للاندماج في الوفد، وأقصد حزبي المصريين الأحرار والمحافظين علي سبيل المثال، لنري حزباً ناهضاً يمثل كتلة اليمين في طيف الحياة الحزبية. بالمثل.. ربما يكون اندماج أحزاب التجمع والناصري والكرامة وغيرها من أحزاب اليسار تحت مظلة واحدة ربما مظلة الناصري، وسيلة لنشوء حزب ناهض لكتلة اليسار يجذب أنصار هذا التيار ويتجنب تشتتهم. أما كتلة الوسط، فهناك عديد من الأحزاب الصغري غير المعروفة تنتمي إليها، غير أن أوضح من يمثلها هذه الأيام هو حزب مستقبل وطن، الذي يبدو أنه الوريث الطبيعي للقوي التقليدية الموالية للسلطة. وربما يكون هذا الحزب نواة لتكوين هذه الكتلة، لاسيما مع حجم عضويته الكبير داخل مجلس النواب. ولعل هناك اجتهاداً يري إنشاء كتلة تجمع كل تلك الشظايا بالإضافة إلي حزب مستقبل وطن والشخصيات المستقلة ذات الوزن المنضوية تحت المظلة الواسعة لفكر الوسط، في كيان واحد باسم »كتلة 30 يونيو». يتبقي الأحزاب الليبرالية كحزب الدستور والحزب الديمقراطي الاجتماعي وغيرهما. ويمكن لها إما الاندماج أو التحالف في كتلة تمثل يمين الوسط. الصورة الأوسع للحراك السياسي المصري من الآن وخلال 10 سنوات قادمة، أراها كالآتي: - نشوء تكتلات وأحزاب جديدة بالتحالف والاندماج قادرة علي خوض الانتخابات المحلية والبرلمانية في مجلسي النواب والشيوخ (عند إنشاء الأخير). - إعادة تشكيل مجالس إدارات مراكز الشباب بالانتخاب، وإنشاء مجلس إدارة منتخب للمركز أو المدينة، من أعضاء مجالس إدارات مراكز شباب القري، ومجلس إدارة منتخب للمحافظة من أعضاء مجالس المدن والمراكز، ومجلس إدارة منتخب لمراكز شباب الجمهورية من أعضاء مجالس المحافظات. - تشجيع اتحادات طلاب الجمهورية والأسر الجامعية، والسماح بالعمل السياسي داخل الجامعات للمنتمين لمبادئ ثورتي 25 يناير و30 يونيو، فالتجربة علي مدار أكثر من نصف قرن أثبتت أن الكوادر السياسية التي تصدرت المشهد المصري في الأحزاب وداخل السلطة التنفيذية، هي تلك التي أفرزها العمل السياسي داخل الجامعات واتحادات الطلاب والأسر الجامعية. - إحياء جمعيات الكشافة والمرشدات والجوالة لتستوعب تلاميذ الابتدائي والإعدادي والثانوي، في هذه التنظيمات المعروفة عالمياً ذات الأزياء الموحدة، من أجل توسيع مداركهم وتعميق وعيهم وولائهم للوطن، وتعزيز مشاركتهم المجتمعية وتوطيد أواصر الوحدة الوطنية وتحصينهم ضد أفكار التطرف وتغييب العقل وتشتيت الولاءات. - إضافة مادة إلي الدستور ولتكن بديلة عن مادة »العدالة الانتقالية» المريبة، تضاف إلي المادة التي تحظر قيام أحزاب دينية، وتنص علي حظر وجود جماعة الإخوان المسلمين في صورة أحزاب أو جمعيات أو تنظيمات أو تحت أي مسمي، ويمكن الاستنارة في ذلك، بالحظر الساري علي الأحزاب النازية في أوروبا وبالذات في ألمانيا. أمامنا هذا العام -في اعتقادي- انتخابات المجالس المحلية في كل أنحاء مصر، وهي أفضل فرصة لظهور الكوادر السياسية الطبيعية علي مستوي الجمهورية، التي ستنمو بمرور الوقت وتحتل المشهد في البرلمان والصفوف الأولي في الأحزاب. وفي العام المقبل، سنشهد انتخابات مجلس النواب، وربما يسبقها انتخابات مجلس الشيوخ إذا جرت التعديلات الدستورية ونصت علي تأسيس الغرفة الثانية بالبرلمان. وبين هذه الانتخابات، هناك الانتخابات الطلابية في كل موسم دراسي وانتخابات مجالس إدارات مراكز الشباب، التي ستكون اختباراً حقيقياً للقدرة علي عزل تيار الفاشية الدينية الكامن كالفيروس وسط جموع الوطنية المصرية. وربما يكون من المناسب تفعيل الفكرة التي سمعتها من الرئيس السيسي شخصيا، والخاصة بإنشاء مجلس استشاري للشئون السياسية، يعاون الرئيس بالرأي والمشورة في هذه الأمور. خلال سنوات المرحلة الانتقالية السياسية التي أقدرها بعشرة أعوام، والمراحل التالية لها في البناء السياسي، أتصور المهمة التوأم للجيش المصري بجانب الدفاع عن أراضي وأجواء الدولة ومياهها الإقليمية ومصالحها الحيوية، هي أن يكون الجيش حامياً لمبادئ ثورة 30 يونيو، ومدافعاً عن الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وحافظاً للتعددية ضد الفاشية الدينية والسياسية، علي أن يكون النص علي هذه المهمة التوأم في مادة دستورية. الحديث لا ينقطع.. والحوار متصل مع أصحاب الرأي.