حالة غريبة للغاية من التوهان وضياع البوصلة تسيطر علي المشهد السياسي في مصر في هذه الأيام التي لا يبدو - والله أعلم - أنها ستنتهي علي خير في ظل شهور استثنائية أخرجت من المواطن المصري أسوأ ما فيه من صفات الفوضوية والغوغائية والجعجعة المقيتة. الكل يصرخ في آن ويبكي في آن والكل يفعل ما يحلو له أن يفعل ويخطئ ماشاء له الهوي بل ويستهزئ من الذين يصارحونه بخطئه . حالة مقيتة تضيع فيها أصوات الحكمة والتعقل وتعلو أصوات اللاعقل واللاحكمة . فبينما تقول السيدة الفاضلة الدكتورة أمينة النقاش نائب رئيس حزب التجمع التقدمي الوحدوي بهدوء انها تتمسك بموقف حزبها الذي يرفض أي قوانين استثنائية مثل تلك التي يطالب بها الكثيرون حتي من بين الذين اكتووا بنيرانها منذ يوليو 1952 حيث الانقلاب العسكري الذي تحول الي ثورة وعلي رأسهم جماعة "الاخوان المسلمين " نسمع قاضيا فاضلا مثل المستشار محمود الخضيري يدعو - دون أن يهتز له جفن- الي اصدار قرارات بقوانين بتفعيل قانون الغدر أو العزل السياسي ومنع حق التصويت أو الترشيح لكل الذين انتموا يوما للحزب الوطني المنحل . والسيدة الدكتورة أمينة النقاش تحذر من أن التجربة العراقية أثبتت أن قوانين اجتثاث حزب البعث من الحياة السياسية في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين كانت وراء الحرب الأهلية المستمرة حتي اليوم هناك من جانب هؤلاء الذين تم اجتثاثهم فتحولوا الي أعداء للنظام وللدولة ذاتها تملؤهم الرغبة في الانتقام والثأر من الذين ظلموهم بالاستبعاد دون محاكمة وكأنهم لم يكونوا يعرفون ما معني أن لا تكون بعثيا في ظل نظام صدام! . لكن يبدو أن الأيام لم تعلمنا ماذا جري عندما استبعد انقلابيو 1952 كل السياسيين المخضرمين الحقيقيين أصحاب الرأي والتاريخ بحجة "وهمية " اسمها المشاركة في افساد الحياة السياسية في البلاد قبل الانقلاب الذي تحول بقدرة قادر الي ثورة . واتضح بعدها أن الهدف الوحيد كان افساح المجال لصالح الهواة من ضباط الجيش الذين ما كانوا يفقهون شيئا في السياسة وهو ما أعاد مصر الي الوراء كثيرا في كل المجالات وعلي رأسها الديمقراطية وانتج نظاما ديكتاتوريا بغيضا قتل الحريات وصنع المزيد من السجون والمعتقلات وانتهي بمصر الي النكسة المهينة في يونيو 1967 التي جلبت العار لمصر والمصريين . وفي اطار حال التوهان وضياع البوصلة وعلي رغم الدعوات المتكررة للحرية والديمقراطية فان الكل نسي هذه الحقائق وبدأ يحن الي الحقبة الناصرية ويحتفي بها دونما ذكر للمآسي التي تسببت فيها هذه الحقبة علي رغم أن شخصية في حجم حمدين صباحي المرشح المحتمل للرئاسة لم تنس دوما التذكير بأن وأد الديمقراطية وحرية التعبير كان هو آفة الحقبة الناصرية . بل ان هؤلاء الذين يستأنسون بذكريات الحقبة الناصرية التي كانت بداية حكم العسكر هم أنفسهم الذي يرفعون شعارات "يسقط يسقط حكم العسكر " وكأن الزعيم الملهم جمال عبد الناصر كان قاضيا في المحكمة الدستورية ولم يكن مجرد ضابط "صاحب كاريزما "في الجيش المصري. انها حالة شيزوفرينيا عجيبة من نوعها غير معروفة أسبابها تجعل الذين يدعون الي تحقيق فكرة العدالة هم الذين ينادون بالعودة الي قوانين استثنائية تتعارض مع فكرة العدالة، ويتضح ذلك علي وجه الخصوص في تعريف جرائم الغدر التي من بينها القيام بعمل من شأنه إفساد الحكم أو الحياة السياسية، أو التدخل الضار بالمصلحة العامة. ومثل هذه العبارات مطاطة ، وبالتالي يصعب تطبيقها لكونها تجعل الجريمة غير محددة المعالم. وكان الأجدر أن نعمل علي تطهير النظام القانوني المصري من هذا النوع من القوانين لا أن نعود إليه. بل ان تفعيل قانون الغدر قد يؤدي إلي عكس المطلوب، أي بدلا من غلق ملفات الفساد الإداري سريعا، نجد أنفسنا قد فتحنا بابا لعشرات الآلاف من الدعاوي الجنائية التي يختلط فيها الجدي بالكيدي والهزلي، والمهم بالبسيط، وتزيد حالة الشلل الحكومي علي كل المستويات. إذا كان المطلوب هو تطهير جهاز الدولة فإن تحقيق ذلك ممكن عن طريق عزل من شاركوا في الفساد السياسي من الوظائف القيادية باستخدام السلطة العادية لرئيس الوزراء والوزراء في التعيين والعزل دون حاجة لقانون جديد ودون اللجوء للقوانين الاستثنائية التي عانت منها مصر علي مدي نحو 60 عاما متتالية والتي يمكن أن يستخدمها كل نظام في ملاحقة خصوم الغد الذين قد يكونون حلفاء اليوم وطليعة الثورة. وكنت أظن أن مثل هذه القيم هي التي يجب أن يتصدي للدعوة اليها سدنة العدالة أمثال المستشار الخضيري والمستشار زكريا عبد العزيز والمستشار هشام البسطويسي لا أن يكونوا في طليعة الداعين الي هدمها. في نفس الاطار تبدو غريبة للغاية مواقف سياسيين أمثال الدكتور حازم صلاح أبو اسماعيل وأمثاله من غالبية السياسيين من هؤلاء الذين لم يعد يعجبهم شيء فهم يريدون فقط ما يتواءم مع مطالبهم هم دون اعتبار لما يريده الآخرون من الشركاء . ويعتبرون أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة - المتورط في حمل هذا العبء الثقيل - موجود فقط لخدمة أهدافهم وأن عليه أن يصم آذانه عن اي دعوات الا دعواتهم وعن أي نداءات سوي ما ينادون به . وعلي عكس القاعدة الفقهية التي تقضي بأن ما لا يدرك كله لا يترك كله فانهم يتناسون أن هناك الملايين من الشركاء في الوطن لديهم تخوفاتهم من هذا الظهور الاسلامي المتسع النطاق من خلال السلف والأحزاب السلفية ومن خلال الاخوان المسلمين جماعة وحزبا وأن من حق هؤلاء الملايين أن يجدوا لمخاوفهم موقعا لدي المجلس العسكري وهو يمهد الطريق لتسليم الحكم الي سلطة مدنية. بل ان المرشحين المحتملين للرئاسة وكلهم أصحاب الخبرة والحكمة والعقل يتحدثون باسم الشعب - دونما تفويض - ويحاولون استخدام نقاط الخلاف والاختلاف لتحقيق مكاسب انتخابية ضيقة ولو علي حساب مصر واستقرارها دون اعتبار للمخاطر المحدقة بنا من كل جانب ودونما تفهم لعناصر ضغط متنوعة ومختلفة المصادر والأهداف من الخارج علي القابض علي جمر السلطة. وبدلا من أن تجد الحكومة "المؤقتة " من يساندها في مواجهة موجات الاضرابات والاعتصامات المتراكمة من عمال النقل ومن المعلمين وأساتذة الجامعات والأطباء وغيرهم نفاجأ بالجميع أحزابا وجماعات وتجمعات وائتلافات شبابية وغير شبابية يركبون الموجة ويطالبون مع المطالبين بتحقيق المطالب المستحيلة في ظل اقتصاد يترنح ويقترب بمصر من حافة اعلان الافلاس بعد اقتراب حجم الاحتياطي من العملة الصعبة في البنك المركزي الي ما يقترب من 22 مليار دولار بانخفاض قدره 14 مليارا في اقل من تسعة أشهر وفي ظل بورصة فقدت نحو 200 مليار جنيه من قيمتها فيما البعض من الغافلين يتساءلون - في بلاهة - عما يربط البورصة بالمواطن المصري. حفظ الله مصر وطنا للعدل والحرية والأمن والأمان.