أمضيت ساعات السفر المتطاولة من القاهرة إلي الشرقية، بسبب ارتباك المرور داخل القاهرة وعلي الطريق الزراعي، في الحديث مع زميلي محمد بهجت، المشرف علي صفحة المسرح في "الأهرام" عن ذكريات السنين مع والدته الكاتبة الكبيرة الراحلة، سناء فتح الله في دار "أخبار اليوم". كيف طلب منها الأستاذ موسي صبري، رئيس مجلس الإدارة، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، أن تتولي الإشراف علي علاجي في أشهر مستشفيات العيون في برشلونة، وعن الأحوال الصحية لوالده الكاتب الكبير أحمد بهجت، الذي يلازم الفراش منذ شهور في إحدي المستشفيات، وعن صديقنا المشترك الناقد عزازي علي عزازي، الذي أصبح محافظاً للشرقية في آخر حركة. قطعنا الوقت ونحن نحلم باليوم الذي تعمم فيه التجربة، فنجد الشعراء والعلماء والمفكرين والروائيين والرسامين ومخرجي المسرح والسينما وقد أسندت إليهم مسئولية الحكم المحلي حتي يطلق المحافظون المبدعون العنان لخيالهم لصياغة مصر جديدة ولدت من رحم ثورة 25 يناير، ولكن سرعان ما تبخر الحلم، فلم تسمح الظروف لنا ولجميع ضيوف احتفالية مصر بمئوية الزعيم أحمد عرابي للقاء المحافظ، لا في "هرّية رزنة".. مسقط رأس عرابي، ولا في ديوان عام المحافظة!. لم تجد هيئة قصور الثقافة، وهي تفكر في الاحتفال بمناسبة مرور قرن كامل علي رحيل الزعيم أحمد عرابي، التي وافقت يوم الأربعاء الماضي، أفضل من أن تطلقها من مسقط رأسه "هرّية رزنة"، ولا أجمل من أن تدعو عدداً من شعراء العامية ليتغنوا بإبداع لغة المصريين الفلاحين، الذين هب عرابي في وجه الخديو ليثأر لهم من الظلم الذي عانوه طويلاً. رأي الشاعر سعد عبد الرحمن، رئيس هيئة قصور الثقافة، أن يصدر في يوم المئوية طبعة جديدة من مذكرات عرابي التي كتبها الزعيم، وأملي علي أنجاله صفحات منها بعد عودته من المنفي، وبعد أن كف بصره في سرنديب. ودعا محمد أبو المجد، رئيس الإدارة المركزية للشئون الثقافية، ثلاثة من أهم أساتذة التاريخ الحديث والمعاصر في جامعاتنا لإلقاء ضوء جديد علي هذه المذكرات التي فقدت الكثير بالنشر، رغم تقديم الرئيس الأسبق محمد نجيب لها. فأفاض الدكتور عبد المنعم الجميعي، الذي عكف طويلاً علي تحقيق هذه المذكرات من مخطوطتها الأصلية، في توضيح أهميتها، وبيان الظروف التي حُرِرَت فيها، وما تم عند نشر طبعتها الأولي عن دار الهلال في عام 1989 من اختصار خطير أدي إلي حجب عدد ضخم من صفحات مخطوطتها!. وفي هذا اللقاء، الذي أداره الشاعرأحمد سامي خاطر، يعترف الجميعي بأن هذه الطبعة من مذكرات عرابي الصادرة في جزءين، ناقصة ومبتورة!. وربما تنحصر قيمتها في أنها تعد درساً في التربية الوطنية، وللمهتمين بالتعرف علي حقيقة ما حدث للزعيم أحمد عرابي أن يقرأوا الصفحات ال713 المكتوبة بخط الزعيم، وتلك التي أملاها بعد أن كف بصره، وهي الأوراق التي قام الجميعي بتحقيقها وصدرت عن الهيئة العامة لدار الكتب في ثلاثة مجلدات، في نحو 1200 صفحة. وفي هذه المذكرات يرد عرابي علي قول أحمد شوقي له: "صغار في الذهاب وفي الإيابِ أهذا كل شأنك يا عرابي؟" بقوله: "كبار في الذهاب وفي الإيابِ برغم أنف أولاد الكلابِ". ومن بين الحضور، يعلق الدكتور صلاح الطاهر متسائلاً عن الافتراءات التي حاولت النيل من عرابي، ومنها أنه كان عميلاً للإنجليز، أو أنه ورط مصر في حرب لم يكن مستعداً لها، أو أنه لم يقم بردم قناة السويس ليحُول دون عبور الإنجليز منها إلي التل الكبير!. وقد برأه الجميعي من كل هذه التهم. وسأل آخر عن أثر مصر في عرابي أثناء نفيه. فأجاب الجميعي بأنه علي الرغم من سوء ظروفه في المنفي، إلا أن مصر كانت دائماً حاضرة في داخله حتي أن الفضل يرجع إليه في أن تعرف مصر زراعة المانجو، التي أرسل بذورها من هناك.