أينا يستقبل الاحداث وفقا لزوايا اهتمامه ومراكمات تنشئته، وعناصر ثقافته، اذ ان كلا منا - بالقطع - ابن لتجربته، وهو لا يستطيع التملص او التخلص من تأثيرات تلك التجربة، والتفكير او التصرف علي نحو آخر خارج مجالها، لمجرد التساوق مع المجموع، أو التماهي فيما رآه الناس وتعودوه نسقا طبيعيا واعتياديا لرد الفعل. وهكذا وجدت نفسي أتوقف - في متابعة لأنباء الاحتجاجات السياسية في سوريا - أمام حدث بالذات واعتبره النقطة التي تبلور معني الثورة السورية عندي، وقد ترك في نفسي علامة لتبقي لا تزور. وأعني بذلك الحدث ما تعرض له رسام الكاريكاتير السوري علي فرازات فجر يوم 25 اغسطس الفائت من اعتداء مخيف علي طريق ضاحية المزة قرب دمشق، حين اعترضه بعض الملثمين ضخام الجثث واقتادوه في سيارة ليكيلوا له الضرب محدثين نزيفا في عينه، ومحطمين أصابع يديه صائحين »سنكسر أصابعك التي ترسم بها ضد أسيادك« ثم القوه من السيارة علي اسفلت الطريق. هذا بالضبط ما بات بالنسبة لي النقطة الاشارية الدالة علي احداث سوريا فاذا قرأت أي نص اخباري عنها - الان - وجدته يدفع الي وجداني فورا باسم علي فرازات، وصور حادث الاعتداء الوحشي عليه، وعشرات من تجليات رسومه التي حفظتها عن ظهر قلب من خلال دراستي واهتمامي بالكاريكاتير السياسي في مصر والعالم. .... تتزاحم الافكار والخواطر في رأسي وأنا اكتب هذا المقال، واسترجع صدي صوت، ووخز قلم محمود درويش وهو يكتب عن رسام الكاريكاتير الفلسطيني الشهيد ناجي العلي، واصفه »خبزنا اليومي« (لقد تزوج الطريق الصحيح وخرج الي العالم باسم البسطاء ومن اجلهم شاهرا ورقة وقلم رصاص فصار وقتا للجميع).. نعم هذا المعني هو ما وقر في اعمق نقطة من ضميري وانا اقلب كتبي التي احتوت رسومات علي فرازات »60 عاما« واحدها كتالوج معرض معهد العالم العربي في باريس الذي اقيم عام 1988 وعنوانه caricatures -arabes او الكاريكاتيرات العربية وفي احدها يرسم فرازات شخصا عملاقا يرتدي سترة انيقة ويثبت وردة في عروتها ولكنه بلا وجه وانما حلت بلطة ملوثة بالدماء فوق الرقبة فيما طائر جميل ملون له منقار علي شكل سن قلم ينقر ساق البلطة او عنقها بذلك السن حتي اوشك علي اسقاطها. هذا - بالضبط - هو نوع فكر علي فرازات الذي أفضي به الي حادث المزة المروع، والذي يؤكد زيجته للطريق الصحيح، وصيرورته - كناجي العلي - وقتا للجميع. منحاز - هو - الي الديمقراطية مقاتل في سبيلها باكثر الاشكال تجريدية واختصارا، يعني من دون لف او دوران، ولت وعجين صاحب رسالة مباشرة تخترق سويداء قلب الانظمة السلطوية وفهم راق لعقيدة الكاريكاتير كما اعتنقها كل المشاغبين الفلاسفة الرسامين، علي امتداد تاريخ ذلك الفن في المنطقة العربية. نشأت وربيت في منزل رسام عملاق كان الملك والانجليز والاحزاب التقليدية القديمة قبل ثورة 23 يوليو اهدافا مزمنة لريشته الجسور، ومن ثم ادركت ان الكاريكاتير اكثر الفنون المرئية شعبية وديمقراطية لا ينفصل بتاتا عن هويته كابداع مقاتل ومن دون التصاقه بذلك التوصيف فانه يمكن ان يصبح شيئا آخر »ربما خطوط جميلة« ربما نكتة مضحكة ولكنه نوع فني مغاير لما درجنا علي معرفته بوصفه الكاريكاتير. الكاريكاتير هو ذلك النسق الصحفي التشكيلي الذي يقدم فيه الرسم الواحد لابسط مستويات الناس حمولة هائلة من الرسائل المباشرة او الضمنية inclusive ربما تعجز عنه مئات المقالات ولعلي اتذكر - هنا - واحدا من المواقف التاريخية في الكاريكاتير الاوروبي واعني به ما قام به الرسام والطباع الفرنسي فيلبون (صاحب مطبوعتي شاريقاري والجمهورية) بنشر رسم هونوريه دومييه لوجه الملك لوي فيليب علي شكل كمثري فيما الرسالة الضمنية لكلمة LA POIRE ان الملك ابله او غبي كما في الثقافة الشعبية الفرنسية.. وتلك الرسائل الضمنية تصبج بمثابة اكواد وشفرات بين الرسام والناس وهي قادرة علي تحريك جموع الشعب في سلاسل من رد الفعل تبدأ بالترديد الشفاهي للنكتة او الرسالة وانتهاء بتحويلها شعارا يتحدي البطش ويناطحه رأسا برأس. ومن تجربتي - ايضا - ان ابي الرسام عبدالسميع كان يرسم حذاء يرمز به الي الملك او السراي، فأصبحت رسالته الضمنية واصلة لأبسط بسيط علي الرصيف، يري الحذاء في الرسم فيعرف انه المليك المفدي! الكاريكاتير وسيلة يعبر بها الانسان عجزه امام القهر، وموليير يقول بان الهزلي او الضاحك ربما يكمن في شخص الساخر نفسه فهو يضحك من شخص آخر او من نفسه، او يشارك الاخرين في الضحك، او يقلد الاخر في ضحكه دون ان يعرف السبب الذي من أجله يضحك، وتلك الحالات التي وصفها موليير هي -في حقيقة أمرها - اشكال لفعل المقاومة ومحاولة التصدي لما يفوق قدراتنا او لما نعجز امامه، واحد ما نعجز في مواجهته- بالقطع - هو الانظمة المتسلطة او المستبدة التي لا تعرف حدودا في قهرها لمواطنيها، وسحق ارادتهم، ونوازعهم الطبيعية في التعبير عن انفسهم، والحلم لانفسهم وللآخرين، تحت احذية حكامها او اجهزتهم القمعية التي تعادي »الاختلاف« هكذا في أبسط صوره. فهمت - اذن - لماذا كره النظام السوري فرازات الي ذلك الحد.. لانه مبدع الكاريكاتير القادر برسومه علي تخطي الحدود التقليدية للعجز، والنافذ بريشته الي التأثير في الجماهير ودفعها الي الحركة، بالضبط مثلما فعل في موقعه الاليكتروني.. فرازات كان مؤثرا في نطاقات تتسع باضطراد لتتجاوز ما هو محلي وبخاصة ان رسومه هي بدون تعليق sans-paroles يعني بلغة كونية او عالمية. كانت تهمة علي فرازات هي (التطاول علي الاسياد) وهي تعكس منتهي تطرف الظاهرة الاستبدادية وبلوغها آمادا تشي بقرب نهايتها او هزيمتها اذ بعد الذروة يبدأ منحني الظاهرة في الهبوط والانكسار. والاعتداء الذي تعرض له فرازات يعني كذلك ان الفنان المناضل وصل الي ذروة التأثير بالفعل المناضل والمقاوم المرسوم وعلي نحو جعله هدفا لشبيحة النظام الذين اختطفوه من طريق المزة وارادوا كسر اصابعه وريشاته وخنق افكاره او تقييدها. ربما لم تتوقف المطبوعات المصرية حق التوقف امام قصة علي فرازات الا مجلة »روزاليوسف« التي بحكم الاختصاص التاريخي في الكاريكاتير تعرف من هو الرسام وما هي قضيته. ومن ثم وجدتني مدفوعا الي كتابة هذه السطور التي أحيي بها رجلا عرفته علي الورق لعشرات السنين وبنحو حميم جدا.. ولكنني لم أره أبدا!!