قبل 25 يناير، كانت الثورات تعني لنا المطاردات والصدام والدم.. ولم يكن للإبداع فيها مكان، ولم يكن للفن خلالها وجود.. فإذا انتصرت الثورة، رأينا وسمعنا أبواقها تملأ الدنيا تخليدا لها وتسبيحا بفضلها، وإذا هُزمت، رأينا وسمعنا أبواق النظام المنتصر ترفع رايات النصر وتتهم الثائرين بالخيانة والعمالة و... لكن مع 25 يناير تغيرت الصورة تماما.. فقد أفرزت الثورة مبدعيها، وأنتجت فنانيها، الذين ترابطوا، وتمازجوا، خلال 18 يوما، كان الإبداع درعهم، والفن سلاحهم، في مواجهة كل ما تعرضوا له لإجهاض ثورتهم، والنيل من إصرارهم وعزيمتهم، فعزفوا في ميدان التحرير أروع سيمفونيات التحرر، ليس في مصر فحسب، بل ربما في العالم أجمع.. ونجح هؤلاء المبدعون، في تسجيل وقائع الثورة، بالحرف، والنغمة، والحركة، وقد رصدت في حلقتين سابقتين أحد فرسان ميدان التحرير، الدكتور إبراهيم العوضي، الذي روي شهادته كشاعر، وثائر منذ البدايات الأولي للثورة، وحتي الإرهاصات الأخيرة لانتصارها، واليوم، أقترب من شاب آخر، عرك الفن وعركه، فلم يكتفِ بالحضور في ميدان التحرير كأحد الأرقام الموجودة، بل أراد أن يكون له دور، وهذه الإرادة تجسدت سريعا في تأسيس رابطة فناني الثورة، تلك الرابطة التي انضوي تحت لوائها كل من له علاقة بالفن في الميدان، تقريبا، لتتحول إبداعات الثورة من حالات فردية استثنائية، إلي ممارسات احترافية ذات قاعدة عريضة، يتصدي لها موهوبون في الخط، والرسم، والتمثيل، والتلحين، والغناء، وكل ما يرتبط بالفن من قريب أو بعيد. ويؤكد لي زكي خلفة، مؤسس الرابطة، أن فكرتها ولدت عقب أحداث عصيبة، هي ما عرفت إعلاميا ب "موقعة الجمل"، وما صاحبها من إنهاك للمعتصمين في ميدان التحرير، ومعارك طاحنة استخدمت فيها قنابل المولوتوف، وكسر السيراميك، والأسلحة البيضاء والسوداء، وشهدت كرًّا وفرًّا بين المهاجمين للميدان، والمدافعين عنه، يقول خلفة: وسط كل ما كنا فيه، كنت تتعجب حينما تجد مَنْ يرسم علي الأرض لوحة فنية، أو علي ورق كرتون عبارة مبدعة عبقرية، أو مَنْ يرتجل في هذا الليل البارد اسكتشا تمثيليا، وحول حلقات السمر المتواصل والحب المتدفق، تنعم وتستمتع بأنغام سيد درويش، والشيخ إمام، والشباب يدندنون بحب مصر. عندئذ واتتني الفكرة.. ما المانع في أن أجمع كل هؤلاء الفنانين في كيان واحد، أو رابطة واحدة، وليكن اسمها "رابطة فناني الثورة"؛ لتكون نافذتهم للتعبير عن آمالهم وطموحاتهم؛ فقد كنا مصدومين في فناني مصر.. فهذا الفنان الذي طالما وقفنا خلفه نسمعه، يشبِّهنا بالشواذ، وذاك الذي كنا نتابع أخباره دائما، يطالب بإحراقنا، وثالث كنا نصفق له بحماس، أخذ يحرض علي قتلنا وإبادتنا، إذن فليأتِ العالم كله ليشاهد هذا الشعب الفنان بالفطرة. اختمرت الفكرة في ذهني، وزهت بها نفسي، فذهبت إلي صديقي محمد الديب، مخرج الأفلام القصيرة، الذي تعاون معي في إخراج أول سيناريو أفلامي القصيرة "ماتكفيش"، عرضت عليه الفكرة .. فرحب، وبعدها.. لم أتردد لحظة في تدشينها.. وطلبت من فناني الميدان الانضمام إلينا، فكانت المفاجأة أن عددا كبيرا - لم نكن نتخيله - من الفنانين بين شعراء وكتاب ورسامين انضموا إلينا،. ويواصل خلفة روايته، قائلا: اشترينا الأقلام والورق بأموالنا القليلة، وأذكر أنني لم أكن أمتلك، وقتها، سوي عشرين جنيها، لكن هذه الأموال القليلة جذبت إلينا عددا كبيرا من الرسامين المنتمين إلي مختلف أنحاء مصر، جاءوا للمشاركة في هذا المرسم الكبير المفتوح ليل نهار؛ ليبدعوا الكاريكاتير المعبر عن حال وطننا الجريح، وأجمل ما في الأمر هو تلقائية الفن وروحه العميقة الحرة، وربما هذه التلقائية، وتلك الروح، هما ما جذبا الناس إلي هذا المعرض البسيط، الذي حاول الجميع المشاركة فيه، سواء بطرح الأفكار، أو بتقديم الأقلام، أو بتوفير الورق، وبدأ الشعراء يتوافدون علي المكان، فنظمنا لهم يوما أطلقنا عليه: "عكاظ الثورة"، ولم نكتفِ بذلك، بل نظمنا فعالية باسم: "الراكية"، استوحيناها من الراكية التي كان يصنعها الثوار من الخشب ويوقدون فيها النار للتدفئة وصنع الشاي.