تناولت خلال الأسبوعين الماضيين أحدث كتب المفكر التونسي د. عبدالسلام المسدي "تونس وجراح الذاكرة"، الذي تحدث فيه باستفاضة عن جمهورية الرعب. وشخصية الحاكم بأمره، المستبد، الذي تتوقف أنفاس البلاد كلها من أجل تحقيق رغباته التافهة قبل الجليلة، ويروي المؤلف قصة طريفة - لكنها موحية - عن الدكتاتور، فيقول: مطلع 1989 بثت الإذاعة المصرية لأول مرة تسجيلا للموسيقار محمد عبد الوهاب في أغنيته "من غير ليه". بلغ الخبر السلطان وقد فاته التقاطها فسأل: هل من أحد سجلها؟ فاندفع القوم من حوله يلبون رغبته. اتصلوا بالإذاعة الوطنية وبالإذاعات الجهورية فما عثروا عليها، وطاف طائف ببعض الوزارات، حتي عثروا علي مواطن كريم في قفصه، فخرج إليه من تونس من طوي الأرض طيّا كي يأتي إلي قرطاج بشريط يحمل "من غير ليه"، واسترجعت البلاد أنفاسها بكل رئاتها! ويتحدث المسدي بعد ذلك عن ثورة 14 يناير في تونس، فيقول (ص 217): دقت ساعة الخلاص، كانت القلوب واجفة ترجف، تبكي شهداءها، وكان الفرح يفيض بلا حدود. وانطلقت الألسن بعد عقال طويل، وانسرحت الحناجر وكانت تغص ببحة دائمة، واستوت الرؤوس علي رقابها بعد أن أعياها الالتفات يمينا وشمالا، وأما الجفون فكفت عن الارتعاش الغامز، وتضاءلت في الحديث نسبة الهمس فالجهر قد ارتفع تواتره. في زمن وجيز جدا اقتحم الشعب فضاءات جديدة كانت أبوابها موصدة بأقفال حديدية سميكة: الثقافة المتعلقة بالدستور... وكانت للناس جولات لم يعهدوها من قبل، أعادوا فيها ترتيب منظومة المفاهيم السياسية، وتماهوا مع قاموس جديد من مفردات الحوار والجدل والصراع، واكتشف الكثيرون أن الشرعية التاريخية شرعيتان: شرعية الدساتير وشرعية الثورات... وقد يكون الناس جميعا - وفي مقدمتهم أفراد من النخب - قد اصطدموا بحقيقة أخفوها ثم أمعنوا في إخفائها: أن الديمقراطية ثقافة، وأن ثقافة الديمقراطية تكتسب بطول المراس ولا يرتجل تعاطيها. كنت - وأنا أتابع متأملاً ما كبر وما صغر - أري كل شيء جميلاً، إلا شيئًا واحدًا افتقدته... انظر في كل ما كتبه السياسيون عندنا عن تجاربهم، وما كتبه المثقفون الأكاديميون الذين تقلدوا المناصب الوزارية، فسيعسر عليك أن تعثر علي سياق واحد يقول لك فيه صاحب المذكرات، أو مدون سيرته السياسية، إني في هذه المسألة تحديدًا قد أخطأت، وإني في هذا الصنيع بذاته قد ظلمت فاعتذاري أقدمه لمن تضرر من فعلتي. في أحضان الشرعية الثورية، كنت أفتش - بين المثقفين - عمّن يصنع الاستثناء، عمّن يجود بالمفاجأة، عمّن يقول: "سامحوني فقد ارتكبت ذنبًا في يوم من الأيام، فاغفروه لي". فحبة من المكاشفة - ولو بحجم حبة الخردل - كان بوسعها أن تخرجنا من حميمية البوح فتنقلنا إلي جوهر القضية التي أمام ناظرنا: فك ألغاز الحكم الاستبدادي. فالحاكم بأمره - عن طريق منظومة عظمي من الآليات المتشابكة المعقدة - قد تسلل إلي نفوس كم هائل من المثقفين، فعمل بوسائله القهارة علي زعزعة الطمأنينة لديهم، وتوسل بالأعاجيب كي يزرع فيهم الرعب فصيرهم مذعورين. ويتحدث المسدي في ختام كتابه، عن المتلونين الذين حاولوا ركوب الموجة، فيقول (ص 221): منذ اليوم الثاني من بزوغ شمس الثورة كنت تسمع المثقف الأكاديمي علي شاشتك الوطنية يشيد بالديمقراطية ويتغني بأناشيدها، فتشد أنفاسك بالانتظار، وتنتهي الساعة فيرتوي الجميع وتظل أنت علي ظمأ. كنت تتمني لو أن مثقفنا ختم كلامه باعتراف بسيط يقول فيه: "عذرًا؛ فقد مر عليّ زمن أغضبت فيه زملائي في الجامعة يوم ناصرت مبدأ تعيين العمداء، واغتظت غيظًا مكشوفًا لمبدأ انتخاب العميد، ولكني آمنت اليوم بفضائل الديمقراطية". أو كالمثقف الجامعي الذي راح يجادل منذ 2001 فيما ستفعله البلاد حين يحل بها موعد 2004 ثم راح يسوغ التمديد بتنقيح الدستور، مؤثثا بيانه التطوعي بحجج وبراهين هي علي مقاس ما كنا نسمعه ليلاً ونهارًا من أصدقاء تونس الدوليين، وتتلقف الصحافة الأجنبية حججه وبراهينه، وها هي الثورة قد بزغت إشراقاتها، وها هو في البدايات صوت جهير من أصوات "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة". أفلم يكن أيسر عليه أن ينشر علي الملأ ما به يفسر لهم ما الذي دفعه إلي صنع ما صنع ذات عام؟ ويختتم المسدي كتابه بهذه العبارة الدالة: وفي انتظار أن تبرأ الذاكرة من أسقامها لن يكون شيئا في تونس كما كان.