ما زالت تونس الثائرة ذ مثل مصر ذ تحاول الخروج من براثن الماضي القريب، وفساده الضارب بجذوره في أغوار المجتمع، متحفزة طوال الوقت للمتربصين بثورتها، والمتسلقين عليها، الراغبين في جني ثمارها وخطف مكاسبها. وما زالت ارتباكات ما بعد الثورة تتصدر المشهد ذ هنا وهناك ذ وشهادات الثائرين، والمثقفين، والسياسيين، تتوالي، سواء عبر الفضائيات وبرامجها العديدة، أو الصحف التي تتلقف أي كلام عن الثورة والثوار لتبرزه وتضعه في صدر صفحاتها الأولي، أو الكتب التي كسدت سوقها، فبدأ المؤلفون والناشرون يحشدون أسلحتهم لإصدار كل ما يتعلق بالثورة من قريب أو بعيد، باعتباره بضاعة رائجة هذه الأيام. وكنت قد بدأت منذ عددين سلسلة مقالات عن شهادات الثوار، واليوم أتوقف قليلا أمام شهادة مختلفة، لا تتعلق بثورة 25 من يناير في مصر، وإنما تدور حول ثورة 14 من يناير في تونس، تلك الثورة الشعلة، التي وصل ضوؤها سريعا إلي القاهرة، فتأجج الشعب، وخرج رافعا بعض شعاراتها، وأشهرها: "الشعب يريد إسقاط النظام". والشهادة التي أعرضها اليوم، لواحد من أهم المثقفين التونسيين والعرب، "تقاطعت تجربته السياسية مع الذي حكم البلاد بأمره" في تونس، ورأي "أن يتكلم، وأن يروي، وأن يبوح" الآن، معتبرا أن هذا البوح إنما يأتي "لأداء حق الوطن عليه، وحق أبناء وطنه عليه، وحق الثورة بشهدائها وبأبطالها عليه". أتحدث عن الكاتب التونسي د. عبد السلام المسدي، الذي دفع إلي المطبعة بأحدث كتبه: "تونس وجراح الذاكرة"، مؤكدا في مقدمة كتابه حق الناس علي المثقف في "أن يتكلم كي يصف ما رآه داخل السجن الذهبي ولم يكن غيره يراه"، واضعا بينه وبين قارئه "ميثاق بوح" أشبه بالقسم، أهم بند فيه: "أن أقول الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة". والكتاب شهادة فرضتها الثورة التونسية، التي حرّكت القلم - كما يقول المسدي - بسبب "تلقائية اللحظة التي جاد بها التاريخ فيما سماه الناس ثورة الياسمين، ثم استبدلوا بذاك الاسم اسما ربطوه بتاريخ زمنه كما يحصل عادة، ثم آثروا ثورة الكرامة". ومع المسدي، في كتابه الذي لم يصدر بعد، نقرأ شهادة يسعي الكاتب من خلالها إلي إيقاد شمعة في فضاء مُدلهمٍّ غائمٍ (ص 51) كان لي "حظ" استثنائي، لا أدعي فيه أي فضل خاص، ولا شك أن لغيري في هذا المجال فضلا يفوق ما لي منه مرات ومرات. لقد كنت شاهدا علي ما به رأيت كيف يتخلق جنين الاستبداد ثم يولد ثم يترعرع ثم يقطع المراحل حتي يمسي عملاقا بين العمالقة. هذه هي إضافتي، يسيرة ولكنها كاشفة، ربما تكمل وجها غائبا، فالدكتاتورية ظاهرة معقدة جدا، تشتمل علي ظواهر متوالجة يصفها الواصفون ويحللها المحللون، وتشخيصها عادة ما يتم من خارجها. ولكنني أرتسم منذ الآن غاية أخري تكمل الأولي ولا أراها شائعة في هذا الضرب من الشهادات، لقد عشت التجربة بوعي حاد، وألتمس منك العذر أيها القارئ في ما أقول، فلا أنوي أبدا ادعاء الموهبة، ولكني أسوق لك ما أسوق كي تتبين منذ الآن لماذا أنا أروي تفاصيل الأحداث عن سنوات بعيدة خلت، وكيف أقف عند جزئيات متناهية. ستري معي أن ذلك كله قد كان مصدر شقاء نفسي لا حد له، وإذ أستنجد به الآن فأراه يغدق علينا معا بثمره فما ذلك إلا من سخاء الأقدار. إني أعتزم أن أطرح قضية أخري لن تقل أهميتها عن أهمية المسألة الجوهرية الأولي، إنها قضية الوعي بانتصاب الحكم المطلق، أعني: متي ينجلي الوعي بالظاهرة؟ وكيف يتشكل إدراك الناس لها؟ ماذا يحصل لدي المثقف النقدي من مترتبات ملازمة لذاك الوعي؟ وفي المقابل: لماذا يغيب الوعي؟ وكيف تتروض النفوس علي مداراة الظلم والطغيان؟ ولكن السؤال الأوجع: كيف تتحدد مسؤولية المثقف بعد إدراكه اليقيني أنه أمام حكم دكتاتوري كأشد ما تكون الدكتاتورية؟ وإلي الأسبوع المقبل، لمواصلة شهادة وبوح الدكتور المسدي، في كتابه الذي يصدر خلال أيام في تونس.