لم يعش الرئيس جمال عبدالناصر في حياته أياما أصعب من الشهور الثلاثة التالية لهزيمة يونيو.. وكيف واجه هذه الفتنة التي كان يدبرها المشير عبدالحكيم عامر وعصبة ضباط القيادة الموالين له للقيام بمحاولة انقلابية لاعادة المشير الي منصبه بالقوة عندما تراجع الرئيس عن قرار التنحي تحت الضغط الشعبي العارم؟ وكيف تصدي عبدالناصر للفتنة في الفترة الحرجة علي جبهة سيناء لكي يتفرغ لإعادة بناء القوات المسلحة وهو يلملم جرح الهزيمة ويتحمل المسئولية وحده بشجاعة؟ لقد اقتنع الرئيس عبدالناصر بعد هزيمة يونيو بعدة حقائق أساسية عن الموقف وبالتجرد من المشاعر الخاصة: 1 انه لا سبيل للتهاون مرة اخري مع عبدالحكيم عامر مثلما حدث في عام 26 في اعقاب الانفصال وعودته الي منصبه بما يشبه الانقلاب الصامت وتحت تأثير علاقة الصداقة الطويلة وانه لابد من جراحة استئصال للقيادات والعناصر التي تسببت في التسيب والانفلات في القوات المسلحة.. وبما أدي إلي الهزيمة!. 2 انه لا مجال للمساومة علي مصير البلد لإرضاء عبدالحكيم عامر والتغاضي عن التحركات التي يقوم بها اعوانه من الضباط لانها علي حساب الاستقرار المطلوب للجبهة الداخلية وقد تؤدي الي عواقب وخيمة في ظل الغضب الشعبي والمطالبة بمحاسبة القيادة والمسئولين عن الكارثة. 3 انه لا يمكن اعادة بناء القوات المسلحة وبالتالي الاعداد للمعركة في وجود عبدالحكيم عامر وبطانته واركان قيادته وفي مقدمتهم شمس بدران وتأكد عبدالناصر ان عصبة ضباط عامر لايريدون التخلي عن السلطة وانهم يتخذون منه واجهة للتآمر والقيام بانقلاب واعادته الي القيادة.. وهكذا كانت تبدو صورة الفتنة الخطيرة!. كان عبدالناصر قد اتخذ قرار التنحي مساء 7 يونيو عندما تأكد من حقيقة الموقف علي الجبهة وانهيار المشير عامر في القيادة، وبعد انتهاء الرئيس من إلقاء الخطاب وكان في بيته في منشية البكري والذي اعلن فيه التنحي وتحمل المسئولية، توجه عبدالحكيم عامر الي شقة في الزمالك كانت تستخدم كمنزل امين وتتبع اللواء طيار عصام خليل مدير المشروعات الفنية بالقوات المسلحة، ولذلك فإن ما دار فيها كان مرصودا منذ البداية، وكان المفروض ان تكون اقامة عبدالحكيم فيها سرية.. ولكن لم يكد يمضي اربع وعشرون ساعة إلا وكان عنوان الشقة قد ابلغ الي عدد من الضباط وبصفة خاصة قادة الاسلحة الرئيسية وقادة افرع القوات المسلحة، وبدأ بعضهم يتصل تليفونيا بالمشير عامر وكان منهم الفريق صدقي محمود والفريق عبدالعزيز مصطفي والفريق سليمان عزت واللواء عبدالرحمن فهمي واللواء عبدالحليم عبدالعال.. وكانت هذه الشقة مؤمنة قبل ذهاب عبدالحكيم إليها ولذا كانت المكالمات التليفونية في حدود المجاملات وعرض الخدمات الشخصية وكانت ردود عامر جس نبض موقف كل منهم.. ولكنه لم يتلق اي اتصال من الرئيس عبدالناصر!. عاد المشير عامر بعد ذلك الي منزله بالجيزة وهو احد القصور علي النيل مباشرة ويتكون من طابقين: الاول للاستقبال والطعام والثاني لإقامة عامر واسرته وبدروم توجد به مكاتب السكرتارية وحديقة ذات سور مرتفع.. وفور توجه عبدالحكيم الي الجيزة ازدادت الحركة والنشاط داخل وحول القصر، وبدأ بعض الزوار من المدنيين والضباط في التردد عليه وظهرت في الشارع لاول مرة ورقة مطبوعة تحمل استقالة كان قدمها المشير عامر عام 26 إلي الرئيس عبدالناصر بعد الانفصال وعودته من سوريا ويتحدث فيها عن الديمقراطية وعدد من القضايا السياسية!. مقابلات سرية في الليل وحسب شهادة سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات وقتها: كان ذلك بداية نشاط يتحتم مراقبته وكان الامر صعبا في هذه الظروف فإن العلاقة الخاصة والحساسة بين عبدالناصر وعامر تجعل صعوبة تصور ان عبدالحكيم سيتحرك ضده او ضد النظام، كما ان المراقبة كانت لشخص غير عادي وبهدف احتمال تورط عناصر عسكرية، ولذا تم التنسيق بين الاجهزة المختلفة لتتبع هذا النشاط وأخذ كل جهاز واجبا محددا واسفرت المتابعة عن ان عددا من الضباط المعروفين بولائهم للمشير عامر وكذلك بعض اقاربه ومنهم اعضاء في مجلس الامة يترددون عليه، ثم بدأت خيوط التآمر تتكشف من خلال الاتصالات مع ضباط المدرعات والقوات الجوية والدفاع الجوي.. وابلغت الرئيس عبدالناصر ولكنه لم يتصور هذا من »حكيم« ولم يصدق انه يمكن ان يتآمر عليه، وطلب مزيدا من الصبر والبحث، وطلب بحث موقف شمس بدران وعباس رضوان وعلي شفيق. وكانت دائرة هذه المعلومات مقصورة علي الرئيس فقط ولكن تم ابلاغ شعراوي جمعة وزير الداخلية والفريق فوزي كما قمت بتنبيه اللواء محمد صادق مدير المخابرات الحربية واللواء الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري وكانت الخطوة التالية هي وضع امين هويدي مدير المخابرات العامة في الصورة اولا بأول.. وبدأت المعلومات تصلني من بيت المشير عامر مرتين يوميا وتحدثت عن تردد بعض ضباط الصاعقة والمدرعات والطيران والمدفعية في اوقات متأخرة من الليل علي البيت ودخولهم من ابواب جانبية أو من باب المشتل المجاور ويتم لقاء كل منهم علي انفراد مع عبدالحكيم ولمدة نصف ساعة تقريبا، وحتي لا يلتقي احد بالقادم الآخر اي انها عملية مرتبة ومخططة بشكل حذر.. وبعد اسبوع انتقلت اللقاءات الي شقق خارجية وتم تأجير فيلا محاطة بحديقة ذات اشجار عالية ولا تكشف ما يدور بداخلها وتقع في شارع جانبي من الجهة المواجهة لبيت المشير ويلتقي فيها مع الضباط الذين يخشون من التردد عليه وكان يتبعها لقاءات مع عباس ورضوان وشمس بدران!. وبعدها عرفنا بدور صلاح نصر عن طريق احد ضباط المخابرات العامة الذي جاء لمقابلة الرئيس عبدالناصر من الباب الخلفي لبيته في منشية البكري، وتحدث عن انحرافات في جهاز المخابرات وارتباط صلاح نصر بعبدالحكيم عامر.. واخذ مبلغ ستين ألف جنيه من المصروفات السرية وسلمها لعباس رضوان.. وعندما اكتملت الصورة امام الرئيس أمر بتكليف شعراوي جمعة وامين هويدي وسامي شرف بوضع خطة لإفشال مخطط الانقلاب وكانت مهمة صعبة وحساسة. وكان التصور المبدئي ان يتم اعتراض سيارة المشيرة عامر في طريق صلاح سالم اثناء عودته الي الجيزة ثم ينقل الي مكان أمين ومجهز، وطلب الرئيس ابلاغ الخطة لزكريا محيي الدين، وفي مساء اليوم التالي طلبني للتوجه الي منزله وطلب من شعراوي وهويدي ان يذهبا فرادي لمقابلته، وناقشنا زكريا محيي الدين في الخطة إلا انه أثار تخوفا من اعتراض سيارة المشير في طريق عام، مما قد يفشل العملية وتم الاتفاق علي تعديل الخطة الجديدة. المحاكمة في بيت الرئيس وكانت تتلخص في ان الرئيس يدعو عبدالحكيم إلي بيته لمواجهته بحضور اعضاء مجلس الثورة ويبلغه بقرار تحديد الاقامة ويتم التحفظ علي سيارته وحراسته في الحرس الجمهوري، وفي نفس الوقت يقوم الفريق اول محمد فوزي ويعاونه الفريق عبدالمنعم رياض واللواء محمد صادق بمحاصرة بيت المشير في الجيزة والقبض علي العناصر الدخيلة وتصفية البيت من ترسانة الاسلحة الموجودة به، وكذلك السيطرة علي المخابرات العامة.. ووافق الرئيس عبدالناصر علي الخطة الجديدة وأمر بعدم القيام بأي تصرف إلا باشارة منه شخصيا! وفي يوم 52 اغسطس 76 عقد في مكتب سامي شرف في منشية البكري اجتماع نهائي لمراجعة الخطة وحضره شعراوي وهويدي واللواء الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري وتم التنسيق مع اللواء عادل سوكة قائد اللواء المدرع، وفي المساء عقد اجتماع آخر لمراجعة التفاصيل!. وفي السادسة والنصف مساء الجمعة وصل زكريا محيي الدين وأنور السادات وحسين الشافعي- أعضاء مجلس قيادة الثورة الباقون- الي منشية البكري وبعدها بربع ساعة وصل المشير عامر بصحبة العقيد محمود طنطاوي سكرتيره الخاص وبعد دخول عامر إلي صالون البيت خرجت السيارة من البوابة وتم احتجازها في ثكنات الحرس الجمهوري وكذا العقيد طنطاوي.. وعندما دخل المشير عامر الصالون فوجيء بوجود اعضاء مجلس الثورة فقال: »هيه محكمة والا إيه؟ وبدأ الرئيس عبدالناصر الحديث حيث شرح تفاصيل ما حدث منذ بداية الازمة ثم تحدث عما حدث بعد 9 يونيو بالأسماء والتوقيتات والاماكن وأنهي حديثه قائلا: كنت اتوقع بعد كل ما قلت وما حدث ان يكون التصرف من جانبك »يا حكيم« علي مستوي المسئولية ووفق الميثاق غير المكتوب بيننا جميعا »ان من يترك موقعه لا يتآمر ولا يخرج عن الشرعية«.. وكنت انتظر منك انت يا حكيم بالذات ان تقدر الموقف العصيب الذي تمر به البلد لكن للاسف حدث العكس وبناء عليه فإنني اطلب منك ان تقعد في بيتك! وتساءل عبدالحكيم: »يعني بتحددوا اقامتي«؟ ورد عليه الرئيس والحاضرون: نعم! وتدخل أنور السادات محاولا اقناع المشير بقبول القرار، إلا انه تطاول عليه بألفاظ خارجة وضمن ما قاله: قطع لسانك انت بتحاكمني يا رقاص يا.... يا ابن.... ! وبدأ واضحا ان عامر يريد ان يطيل الجلسة علي امل ان ينجده اعوانه في الجيزة اذا تأخر عن العودة ولكنه لم يكن يعلم ان الجزء الثاني من الخطة كان ينفذ بقيادة الفريق اول فوزي وتم استسلام الموجودين ونقل شمس بدران الي سجن القلعة!. وفي الخامسة فجر 62 أغسطس خرجت سيارة ليموزين سوداء من باب منشية البكري وكان يجلس فيها المشير عامر وزكريا محيي الدين وحسين الشافعي وتوجهت الي بيت الجيزة وتم تحديد اقامة عامر فيه مع زوجته وأولاده ولم تقطع التليفونات عنه!. ثاني محاولة للانتحار وهكذا أصبح عبدالحكيم عامر من يوم 62 اغسطس 76 محدد الاقامة في منزله وظل حتي صباح 31 سبتمبر 76، وكانت التعليمات تقضي بعدم السماح له بالخروج بينما يسمح لافراد اسرته بالتحرك بدون قيود.. ولكن تبين ان عامر استمر في الاتصالات متعددة الاطراف بطريقة سرية وكان الغرض منها بث شائعات ضد النظام واثارة الرأي العام، مما اضطر الرئيس عبدالناصر الي ان يقرر تحديد اقامة المشير عامر في مكان منعزل إحدي الفيلات التي كانت تستأجرها المخابرات العامة في منطقة اهرامات الجيزة وكلف الفريق فوزي والفريق عبدالمنعم رياض بتنفيذ ذلك وتم تأمين هذه الفيلا بواسطة الحرس الجمهوري وقوة عسكرية خاصة بقيادة العميد سعد عبدالكريم مدير الشرطة العسكرية.. وتوجه الفريق رياض إلي منزل عامر وطلب منه تنفيذ التعليمات بهدوء ولكنه ابتلع »لفافة« وكانت ثاني محاولة للانتحار ونقل إلي مستشفي القوات المسلحة بالمعادي لعمل الاسعافات اللازمة ورفض غسيل المعدة وبعد ذلك قرر الاطباء الاخصائيون بعد اعطائه مادة وحقنة مقيئة ان حالته عادية.. وبالفعل غادر المشير عامر المستشفي علي قدميه حتي السيارة التي توجهت الي فيلا المريوطية حيث كان في استقباله اللواء الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري ومعه طاقم الحراسة وطبيب مرافق!. كانت الفتنة تطل برأسها بين أعوان عبدالحكيم عامر وكادت تؤدي الي صدام رهيب وفوضي عارمة لولا ان الرئيس عبدالناصر تحرك بالحسم والقوة للقضاء عليها، وحتي يتفرغ بعد ذلك لاعادة بناء القوات المسلحة علي اساس سليم!.