هناك نكتة مدرسية، عن رجل أضاع خاتمه في مكان مظلم فتركه وتوجه للبحث عن الخاتم تحت عمود النور؛ حيث لا يمكن البحث في المكان المظلم. ويبدو أن مصر صارت ذلك الرجل الأخرق الذي يبحث في المكان الخطأ عن أشيائه الضائعة؛ حيث أعلن ديفيد كريج المدير المسئول عن مصر والشرق الأوسط بالبنك الدولي بأن البنك تلقي طلبًا من مصر لمساعدتها في استعادة أموالها المنهوبة، وكان علينا أن نفرح بهذا الطلب، لكنه للأسف ليس إلا نوعًا من البحث حول عمود نور ليس تحته شيء! هل كانت العصابة، التي تتجمع الآن للانقضاض علي الثورة، تضع أموالها في البنك الدولي لكي نطلب منه المساعدة في استردادها؟! ولماذا لا نطرق الأبواب الصحيحة في سويسرا وبريطانيا وفرنسا وأمريكا؟! ربما تكون هناك مستندات لدي هذه المؤسسة الدولية حول عمولات لقروض أو صفقات كان البنك طرفًا فيها، لكنه ليس الجهة التي يمكنها أن تنبيء بالخفي في بنوك سويسرا أو غيرها من الدول راعية الإرهاب المالي ضد الشعوب. وقد تكرمت دول واتحادات دولية من قبل بإبداء استعدادها للتعاون مع مصر لاستعادة أموالها المنهوبة، بل وألحف بعضها في الطلب وكرر وزاد وعاد، من دون أن نسمع استجابة من مسئول في مصر المستغنية. ومن يراجع الأحداث منذ بدايات الثورة يجد العديد من نداءات الاتحاد الأوروبي جماعة ودولاً لمصر كي تتقدم بطلب لتجميد الأرصدة، ودأبت مصر علي ألا ترد. والأمر نفسه ينطبق علي تصريحات بريطانية أعلنت مؤخرًا حول استعداد انجلترا لتوقيع اتفاقية تبادل المتهمين مع مصر من أجل تسهيل عودة الهاربين من دون أن نتقدم بإجراء عملي يرد علي هذه النية. ولابد أن تقاعسنا أسعد الإنجليز وجعلهم يكتشفون أنهم ليسوا الأكثر برودًا بين الأمم! بالنتيجة فإن مصر المستغنية عن ملياراتها المنهوبة تبدو مستغنية أيضًا عن مليارديراتها الناهبين الهاربين الذين يستمتعون بصيف أوروبا اللذيذ، بينما يرسلون إلينا بموجات من البلطجية بالسنج علي الأرض وباللسان في السماء؛ حيث تتوالد قنواتهم الفضائية كالأرانب. هذا ليس تجنيًا لكنها الحقيقة المريرة. واستعادة الأموال ليس المطلب الوحيد للثوار الذي تحتقره السلطة في مصر؛ فقد شاءت المصادفة أن يطلق المسئول الدولي تصريحه في واشنطن يوم الجمعة الماضي، بينما كان الشباب في التحرير يطالبون بالقصاص من قتلة الثوار دونما استجابة، لأن الحكم اعتاد أن يبحث عن الأشياء تحت أعمدة النور، وليس في الأماكن التي فقدها فيها. والسلطة المستغنية عن أموالنا المنهوبة هي نفسها التي تتيح الفرصة لموجة البلطجة بأن تجري وراء الموجة، بالامتناع عن قطع دابر البلطجية وعناصر الثورة المضادة بجهاز الشرطة، حيث تستغني عن قطع رؤوس الثعابين وتكتفي ببخ الذيول بالغاز وتفريق المجرمين في كل مرة من دون أن نعرف شيئًا عن القوة المجهولة التي تقف وراءهم. ومن المفارقات المؤسفة أن الثورة قام بها أبناء الطبقة الوسطي ومات فيها المتعلمون من أجل إنقاذ البلاد بسكانها وبينهم أصحاب الأنفس الميتة من البلطجية الذين يتولون نشر الموت مقابل خمسين جنيهًا للذيل منهم. وهؤلاء العبيد لو أعدموا جميعًا لن يفيد إعدامهم؛ فهم ضحايا فقدوا كرامتهم بالفقر مرة ومرة ببقائهم أسري الجلاد الشره، يسخرهم لقتل محرريهم، كي يعود لينقض علي البلد ويحتل الأنفس مجددًا. ومن المؤكد أن الشهداء لم يفقدوا حياتهم من أجل الصراع مع بلطجية الشارع، ولا حتي من أجل ثأر شخصي مع جمال مبارك وعصابته. لو كان الأمر كذلك ما استحق جريان نقطة دم ولا انطفاء نور عين في وجه من وجوه شهداء الثورة الأحياء ومصابيها. الثورة حتي لا ننسي قامت من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الفردية والوطنية التي لم نر شيئًا منها حتي الآن، بل علي العكس حصلنا علي بهدلة أسر الشهداء من دون أن يستقيل أو يقال أو يعتذر أحد. والسلطة التي تستغني عن استعادة الأموال المنهوبة تستغني عن استعادة الهدوء السليب؛ فهل هي خطة حتي لا يجد الثوار لحظة لتأمل موضع قدمهم؟ هل المطلوب هو إنهاك الشباب حتي يتخلوا عن مطالبهم العادلة ويضطروا إلي الاعتذار عما فعلوا؟! لا منطق مطلقًا في هذه الحالة الرجراجة، ولا معني لإبقاء كل الملفات بلا حسم، والتاريخ لن يرحم أحدًا؛ لأن أجمل شباب مصر لم يموتوا من أجل أن يخلع جمال مبارك البدلة الملونة ويرتدي التريننج سوت الأبيض ولا من أجل أن يستبدل أحمد عز حمام سباحة مارينا بشم الهواء في مزرعة طرة، ولا من أجل أن ينتقل رموز الفساد الإعلامي من القنوات القديمة إلي التليفزيونات المستحدثة. الثورة قامت من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ولن يستغني الذين استيقظوا عن تحقيق أهدافهم، وليس علي النائمين إلا أن يستيقظوا ليعرفوا أن اللعبة باخت كثيرًا.