سيارات التبرع التابعة لوزارة الصحة وعلامات استفهام بالجملة ! في دولة مثل مصر، كل شيء له وجهان، وجه براق يظهره المسئولون في وجه الناس، يتفاخرون بإنجازاتهم الوهمية، وآخر معتم يبذلون كل الجهد لإخفائه عن العيون . في مصر كل شيء يبدأ مثاليا، لامعا، براقا، ثم سرعان ما يتحول بفعل سوس الفساد، وديدان الفوضي، وعصابات أصحاب المصالح إلي كارثة حقيقية تلتهم البسطاء والأبرياء الذين لا ذنب لهم سوي أنهم مرضوا في وطن لا يقدر معاناة المريض، وإنما يعتبره البعض سلعة أو زبونا يباع ويشتري!! هذه هي الحقيقة المؤلمة التي تكشف عنها وقائع سوق الدم في مصر، الذي تحول إلي سوق سوداء بعلم الحكومة، بل وبسبب قراراتها، وتحت شعار خادع هو تطوير خدمات الدم في مصر، أو ما عرف بالمشروع المصري السويسري. وقصة المشروع المصري السويسري بدأت عام 1999 بهدف تطوير خدمات نقل الدم في مصر من خلال قرض حسن بشروط ميسرة ودعم تقني و فني سويسري من خلال اتفاقية تعاون بين وزارة الصحة المصرية والحكومة السويسرية.. وفي هذا الوقت كانت خدمة نقل الدم في مصر تعاني من التشتت الإداري والتخلف العلمي والفني الشديد. وقامت خطة المشروع علي إقامة شبكة تتكون من مركز قومي لنقل الدم ومراكز اقليمية بالمحافظات المختلفة تكون هي المسئولة عن خدمة نقل الدم التي تبدأ بجمع الدم من المتبرعين والفحص والفصل للمشتقات والحفظ والتخزين في الظروف المناسبة ثم التوزيع الأسبوعي للمستشفيات حيث يتواجد المرضي المحتاجون للدم حسب الاحتياجات التي يحددها المستشفي علي أن تتم جميع هذه الخطوات وفقا للمعايير والضوابط المعتمدة لتحقيق أعلي مستوي من الجودة، علي أن يقتصر دور بنوك دم المستشفيات علي الحفظ والتخزين قصير المدي للدم ومشتقاته واجراء فحوصات الفصيلة والتوافق قبل صرف الدم. ويقوم النظام علي الاعتماد علي المتبرع المتطوع بدون مقابل كمصدر وحيد لإمدادات الدم مع الاستغناء تدريجيا عن التبرع العائلي بالمستشفيات، علي أن تكون هذه الشبكة موازية لبنوك دم المستشفيات وتبدأ بأن تحل محلها تدريجيا مع ارتفاع أعداد المتبرعين المتطوعين واقامة قاعدة من المتبرعين المنتظمين وهم الأكثر أمانا وحجر الزاوية الذي تقوم عليه خدمات نقل الدم. وكانت خطة التطوير بالمشروع السويسري بمثابة الأمل في إحداث نقلة نوعية في خدمات نقل الدم من حيث رعاية المتبرع والاهتمام به واستخدام أحدث الوسائل العلمية لضمان سلامة الدم وفعاليته وتدريب العاملين وفقا لأحدث الأبحاث في مجال طب نقل الدم الذي شهد طفرات كبري في العقود الثلاثة الأخيرة منذ بداية الثمانينيات وبالفعل ازداد نشاط المركز وتوسع في الحملات بالميادين العامة مع نسبة من الحملات المنظمة في الجامعات والشركات منذ عام 2003-2004 وظل المركز القومي وفروعه بالمحافظات تعمل كمراكز دم موازية للنظام القديم ببنوك دم المستشفيات. وقاوم المسئولون بإدارة بنوك الدم رغبة المركز القومي في البدء بتنفيذ خطة تحويل بنوك دم المستشفيات لبنوك دم تخزينية ( لا يتم التبرع بها) ويتكفل المركز القومي أو أقرب مركز إقليمي بتوفير احتياجاتها من الدم وظلت هذه الخطة متعثرة ومتوقفة حتي عام 2007 الذي كان بمثابة بداية النهاية لهذا المشروع مع تفجير قضية هايدلينا الشهيرة التي تورط فيها أهم مسئولي الإدارة العامة لبنوك الدم بوزارة الصحة، وقام وزير الصحة الأسبق حاتم الجبلي كمحاولة للتخلص من ملف الدم الشائك وما ارتبط به من لغط طال الوزير نفسه وكبار مساعديه بإسناد الاشراف علي الادارة العامة لبنوك الدم إلي الدكتورة فاتن مفتاح مدير عام المركز القومي لنقل الدم فصارت بذلك المسئول الأول والوحيد عن ملف الدم بوزارة الصحة ولا زالت بالرغم من تعيين مدير جديد للإدارة، وكانت هذه هي الفرصة الذهبية التي جاءت للمركز وفروعه لتطبيق الخطة المتعثرة لتحويل بنوك دم المستشفيات إلي بنوك دم تخزينية والحد من التبرع العائلي، وهو ما ادي الي حدوث كوارث حقيقية في قطاع خدمات نقل الدم في السنوات الاخيرة. حقائق صادمة ولكي ندرك حجم المصيبة التي أحدثتها ادارة المركز القومي لخدمات نقل الدم تحت ستار المشروع السويسري، لابد ان نعرف أولا واقع مشكلة نقل الدم في مصر، فبحسب دراسات منظمة الصحة العالمية يتعين علي كل بلد جمع أكياس دم بنسبة تتراوح بين 1٪ - 5٪ من عدد السكان لتوفير الدم للمرضي المحتاجين بها (حسب مستوي الرعاية الصحية المتوافرة للمواطن) بمعني انه كلما ارتفع مستوي الرعاية الصحية بالبلد ازدادت احتياجاتها من الدم ومشتقاته لارتفاع مستوي المعيشة وزيادة نسبة المسنين ومايرتبط به من أمراض واصابات وكذلك ازدياد فرصة علاج مرضي الأورام وإجراء عمليات جراحية معقدة مثل عمليات القلب المفتوح وجراحات العظام وزراعة الأعضاء. وتعاني مصر من عجز كبير في كميات الدم المجمعة،ويؤدي هذا العجز إلي معاناة المرضي وذويهم وتعرض حياة آلاف المصريين يوميا للخطر من مصابي الحوادث ومرضي أمراض الدم المزمنة والأورام والفشل الكلوي والكبدي. لمصلحة من ؟! تخيلوا كل هذه الامراض والاحتياجات في مواجهة نقص كبير في اعداد أكياس الدم التي تجمع سنويا، الأمر الذي أدي إلي رواج سوق الدم السوداء للاتجار بالدم واستغلال النقص الحاد في المستشفيات الحكومية لجني الارباح وتكديس الاموال،وقد بدأ ذلك ببنوك الدم الخاصة ثم سارعت عدة جهات حكومية للمشاركة في الأرباح وتحويلها لتجارة مربحة، وللأسف الشديد كانت خطط وزارة الصحة سببا في انتشار وازدهار تلك التجارة وزيادة لجوء المواطنين إليها.. ولم يكن هناك بديل لتعويض النقص الواضح في التبرع المنتظم بالدم سوي اللجوء الي التبرع العائلي، بحيث يتم الحصول علي متبرعين من اقارب المريض، مقابل صرف احتياجه من الدم، وكانت هذه هي الوسيلة المقبولة والشائعة لتعويض نقص الدم. لكن وللغرابة،وعلي عكس المنطق، سارت وزارة الصحة ممثلة في المركز القومي لنقل الدم، حيث توسعت خطة المشروع السويسري في اغلاق بنوك الدم بالمستشفيات الحكومية،ومنعت التبرع العائلي بالمستشفيات، دون ان تقدم بديلا مقبولا لتعويض النقص الحاد في كميات الدم، الأمر الذي أنعش تجارة الدم في السوق السوداء، وضاعف معاناة المرضي للحصول علي الدم وتهديد حياتهم وحدوث وفيات بسبب نقص الدم . بل الاغرب ان المركز ألزم جميع المستشفيات الحكومية التي يتوافر بها الدم بعدم صرفه لأي مستشفي أخري مما يعرض حالات بعض المرضي للخطر ولا يمكن انقاذهم بالرغم من توافر الدم بمكان قريب. وحتي لا يسيء البعض الفهم، أو يحاول البعض الاخر الصيد في الماء العكر، فإنني اؤكد ان ما سبق ليس دعوة الي وقف التبرع بالدم، وانما لابد من الاستمرار في التبرع، بل وزيادة معدلاته، لكن الأهم هو تغيير السياسات الفاشلة التي يتبعها المركز القومي لنقل الدم، والتي ادت الي النتائج الحالية، وادخال الاف المرضي في دوامة البحث عن كيس دم، والوقوع فريسة لمافيا السوق السوداء، وهو ما يعرض حياة عشرات وربما مئات الابرياء البسطاء للخطر، ويدفع مستشفيات الغلابة في مصر الي الأنين من الشكوي من عدم توافر الدم، وهذا ما سنكشفه بالمستندات في الحلقة القادمة من هذه الحملة المستمرة.