سيارات تجوب الميادين والشوارع، بحثا عن اطفال يعيشون اسفل الكباري، وخلف محطات المترو، يلتحفون بالسماء، وينامون في العراء، مهمتهم انسانية بالدرجة الاولي، يلتقون هؤلاء الاطفال، يلعبون معهم ويعطونهم طعاما وشرابا، يتحدثون اليهم بكل »حنية ورفق«- يعلمون انهم محرمون منها - يحاولون بشتي الطرق اثناءهم عن فكرة العيش في الشوارع ، انهم فرق التدخل السريع لانقاذ اطفال بلا مأوي، التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي، اكثر من 17 فرقة في 10 محافظات، تضم كتيبة من المخلصين والمحبين لهذا الوطن، حملوا علي عاتقهم هدفا نبيلا هو «القضاء علي ظاهرة اطفال الشوارع».. عازفين سميفونية رائعة في حب الوطن، غايتهم المنشودة استقطاب هؤلاء الصبية الصغار الي دور رعاية وحمايتهم وانقاذهم مما يعرضون له في الشارع.. وسيلتهم في ذلك سيارات مجهزة بكل وسائل الجذب للاطفال، كلفت الدولة 164 مليون جنيه، تبدأ عملها بداية من الساعة السادسة مساء وحتي الثانية عشرة من منتصف الليل. «الاخبار» قضت يوما مع احدي وحدات التدخل السريع لانقاذ اطفال الشوارع في قلب ميدان الجيزة. من قلب ميدان الجيزة وبالتحديد امام موقف الميكروباص تجد أتوبيسا لونه أخضر، شكله جذاب، مكتوب عليه اطفال بلا مأوي، اقتربنا منه وقررنا أن نعيش معهم التجربة ونحاول الاجابة علي اسئلة كثيرة تدور في اذهاننا، عن آلية عمل هذه السيارات وكيفية جذب الاطفال، واسئلة اخري كثيرة وجدنا لها اجابات شافية، عندما وضعنا اقدامنا داخل سيارة وحدة الإنقاذ، شعرنا اننا انتقلنا الي عالم آخر تسوده البهجة والامل والتفاؤل، ألوان مبهجة، وسائل ترفيه متعددة ومتنوعة، وعند مدخل السيارة، التقينا طفلين يجلسان بجوار بعضهما يضحكان ويمرحان اثناء لعبهما «البلايستيشن»، وبجوارهما شاب آخر يمارس هوايته المفضلة وهي الرسم ماسكا بيده الوانا، ويحاول ان يخرج ما يشعر به في داخله، ظل يرسم ويشخبط، وعندما انتهي نظرنا الي ما قام برسمه لنجد صورة لسيدة تحمل طفلا صغيرا، وعندما سألناه : من هذه السيدة ؟ اجاب بتأثر شديد وضعف موجع، : «دي امي اللي نفسي اشوفها لكن مش قادر بسبب جوزها اللي طردني من البيت وكان بيعذبني، علشان كده انا فضلت اني انام في الشارع ولا اني اروح لامي..» كان لهذه الكلمات وقع كبير علي مسامعنا، وكادت دموعنا ان تنفجر لولا اننا تماسكنا حتي لا يتأثر هذا الطفل البائس، وينخرط في البكاء. انتقلنا الي جزء آخر بالسيارة، هو غرفة الرعاية الطبية بها جميع مستلزمات الإسعافات الاولية واغلب الادوية، كما ان السيارة بها وجبات ساخنة للاطفال و«كولدير» مياه مثلجة ووحدة لحفظ ملفات الاطفال الذين يستجيبون. دور محدد لكل عضو في وحدة التدخل دور محدد، فعلي اليمين يجلس بيشوي عادل أخصائي نفسي الوحدة المتنقلة ، هو متخصص في علم النفس ويري ان انقاذ ومساعدة طفل من التشرد هو شرف لا يضاهيه شيء ، ورسالة سامية تستحق منا بذل الجهد، مهمته تأهيل الطفل نفسيا في الفترة العمرية من سن 10 سنوات وحتي 18 عاما واقناعه بان العودة الي منزله افضل من الشارع واذا فشل في إقناعه يحاول اقناعه بالذهاب الي احدي دور الرعاية من اجل مستقبله، ويقول الاخصائي النفسي انه اذا كان عائق عودة الطفل للأسرة ماديا بسبب الفقر نبحث توفير معاش تكافل وكرامة له من خلال وزارة التضامن، اما اذا كان العائق بسبب الادمان المنتشر بين اطفال الشوارع فيتم التواصل مع صندوق مكافحة الادمان والتعاطي من اجل علاجه ثم عودته لمنزله مرة اخري. جذب الأطفال بجوار الأخصائي النفسي يجلس عدنان عبد الستار مسئول أنشطة الجذب وهي التي تقيمها الوحدة من أجل جذب الاطفال لبدء استقطابهم، هذه الانشطة تتنوع ما بين اقامة مسرح العرائس في الشارع أو ممارسة لعبة «شد الحبل» او ألعاب «البلاي ستيشن» وممارسة الرسم بالالوان، هدف تلك الانشطة هي «جر رجل» الطفل، ومن اهم وسائل جذب الاطفال هو تحفيزهم بسرد قصص عن أطفال استطاعوا رغم المشكلات التي واجهتهم في حياتهم ان ينجحوا ويصبحوا نجوما في المجتمع ثم يقوم عدنان بالحديث عن حياة اطفال الشوارع الصعبة واقناعهم بضرورة ترك الشارع حتي يستكملوا تعليمهم وينجحوا، ويقوم عدنان باصطحاب الاطفال الي أحد الاندية لممارسة كرة القدم، ويحاول ان يحفزهم ويقول لهم : من يستكمل تعليمه وينجح فيه سيصبح عضوا في ناد يمارس كرة القدم كل يوم وهنا يسألهم من يريد استكمال تعليمه فيرفع معظمهم يده، يقول عدنان ان هناك «عصابات» تستغل اطفال الشوارع في عدة اتجاهات ومن جانب عملنا وجدنا منذ شهرين ان أحد الاطفال الذين تم اقناعه بمغادرة الشارع واستكمال تعليمه وأثناء اجراء الفحوصات الطبية عليه وجدنا أن هذا الطفل تم سرقة «كليته» وأصبح بكلية واحدة يواجه الموت صغيرا وبعد رفض الحديث لعدة مرات بدأ الطفل يحكي قصته في رعب شديد ودموعه تتساقط منه حيث أكد لنا انه تم ادخاله لاحد الاطباء وقاموا بتخديره وبعد انتهاء العملية قال لي «المعلم» لو اتكلمت وقلت عن اي حاجة هنقتلك «. واضاف انه يتم استغلال الاطفال جنسيا فأحد الاطفال قال انه تم الاعتداء عليه من جانب «المعلم» الذي يقوم بتشغيلهم في التسول، ولهذا عندما وجد الطفل فرصة لترك هذا الرجل غادر وجاء معنا علي الفور، واخرون يتم تسريحهم في الاشارات في بيع المناديل والاذكار والورد وبعض المنتجات المنتهية الصلاحية، والكسب من ورائهم. و يضيف أخصائي الانشطة ان هذه الوحدة مجهزة بالالعاب تخرج عن فكرة سيارة «البوكس» التي يهرب منها الاطفال بمجرد مشاهدتها واذا تم الامساك بهم وإيداعهم دار رعاية يهربون منها علي الفور، اما في وحدة الرعاية الخاصة بنا فكل فئة عمرية لها ألعاب خاصة بها بداية من مسرح العرائس او البلاي ستيشن او الرسم او كرة القدم او شد الحبل. كسب الثقة بعد ذلك بدأت كتيبة الوحدة في التحرك داخل موقف ميدان الجيزة من امام السنترال ليمارسوا عملهم المعتاد، هذه المرة كان الهدف طفلا يعمل في بيع المناديل في الاتوبيسات في اشارة ميدان الجيزة، خرج جمال عزت اخصائي ثاني انشطة الوحدة مرتديا التي شيرت الاخضر حيث يتلخص دوره في اقناع الطفل وكسب ثقته، وهذا محور عمله معرفة توجهاته ثم توفيرها له، قررنا أن نتابعه ونرصد تجربته، ظل جمال يراقب طفلا علي مدار ربع ساعة كاملة عن بعد ثم اقترب من الطفل الذي يقف في الاشارة بعدما تم فتح الاشارة حتي لا ينصرف عنه الطفل وسأله عن كيفية الاتجاه الي شارع الهرم فقال له اتجه «لليمين» ثم قام بمصافحته باليد وامسك بيده وقال له «تقدر تلاعبني ريست وتكسبني» فابتسم الطفل وقال له «ايوة طبعا هكسبك «فرد جمال «طب ما تيجي نلعب مصارعه بلاي ستيشن» «فقال له الطفل فين، فرد جمال في الاتوبيس عندنا «واتجه معه علي الفور وبدأ في ممارسة العاب «البلاي ستيشن» وهو في قمة السعادة، وبدأ جمال في معرفة بيانات هذا الطفل فقال له «أنا من الفيوم وجاي هنا اشتغل عشان اصرف علي أخواتي وأساعد امي» وعندما سأله أهلك فين ؟ ترك الاتوبيس ورحل مسرعا وهنا قال جمال لنا ان أي طفل من أطفال الشوارع عندما تسأله عن تفاصيله يهرب من الاتوبيس والبعض يستجيب بعد عدة محاولات، واضاف ان هذا الطفل سيعود مرة اخري كما عاد اطفال كثيرون عندما يريدون ان «يلعبوا بلاي ستيشن» واكد انه بعد ذلك يتم فتح ملف عن الطفل بكامل البيانات الخاصة به ثم توجيه الطفل الي العودة لمنزله او ايداعه دور رعاية، واوضح ان معظم الاطفال من خارج القاهرة من الفيوم والصعيد ومحافظات الوجه البحري والكل توجه الي القاهرة هربا من الفقر او التفكك الاسري او البحث عن مخدر لتناوله. الإسعافات الأولية بعد ذلك اتجهنا للحديث مع شيماء عبد السلام دياب مسعفة الوحدة التي حصلت علي خدمة اجتماعية ثم حصلت علي دورات الهلال الاحمر ثم قررت أن تعمل في الوحدة، في الاسبوع الماضي قابلت شيماء حالة حرجة وهي مشاجرة بين طفلين من اطفال الشوارع انتهت بشبه فصل لكف اليد لاحد الاطفال بعدما «ضربه» صديقه بسلاح ابيض، وقامت بعمل الاسعافات الاولية له ثم توجيهه لاحد المستشفيات لإجراء عملية جراحية بشكل عاجل، فتقول شيماء نجد حالات تحتاج رعاية صحية فالوحدة تقوم بعمل الاسعافات الاولية وعمل كشف طبي عن فيروس سي، ونجد علامات واضحة في كل الاطفال ولكن لا يتحدث عن تفاصيل بشأن اصابته. عقارب الساعة اشارت الي الثانية عشرة مساء، وهذا هو آخر عمل وحدة التنقل السريع، تركناهم ونحن في قمة الامل والتفاؤل بسبب هذه الوحدات التي من الممكن ان تقضي نهائيا علي ظاهرة اطفال الشوارع اذا ما واصلت عملها بنفس هذا المنهج العلمي المدروس.