الثورة توحد المجتمع وتغير النظام أو تفرض علي النظام تغييرات جذرية خلال صراعها مع السلطة. والثورة تعتمد علي الحوار والتواصل بين ابناء المجتمع الذين تتشكل أواصر التعاون والتساند والتضامن بينهم خلال أيام الثورة. والثورة تصنعها الشعوب التي لم تعد تتحمل أو تطيق الأوضاع السائدة. والثورة ليست انتقال السلطة من فرد الي فرد أو من فرد الي مجموعة أو من مجموعة الي مجموعة أخري، وإنما هي عملية تحول من أساليب قديمة لم تعد تتفق مع احتياجات وطموحات المجتمع الي مجتمع جديد يتيح إمكانية إقامة علاقة سوية بين الشعب والحكام. هنا يجدد المجتمع نفسه وتجدد الدولة نفسها بعد أن لم يعد ممكنا حل القضايا السياسية بأساليب أمنية. وتنجح الثورة في ظروف اليوم حين تبقي سلمية، وتتحول الي حرب أهلية عندما تستخدم السلاح. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، والأوضاع في مصر والعالم العربي تجعل الثورة ضرورة حتمية. وعندما جاء »جمال الدين الأفغاني« الي هذه المنطقة وجدها بلادا تفتك بها عوامل الجهل والتفرقة والاستبداد.. فقرر ان يتنقل بين بلدانها داعيا الي »القوة« التي تحطم مظالم المستبدين وتصد أطماع الفاتحين، وهذه »القوة« تتمثل في امتلاك سلاح العلم والمعرفة من جهة والاتحاد والحرية والشوري -الديمقراطية- من جهة أخري. ويقول الأفغاني: »نظرت الي الشرق وأهله.. فوجدت أخطر امراضه انقسام أهله وتشتت آرائهم واختلافهم علي الاتحاد واتحادهم في الاختلاف، فقد اتفقوا علي ألا يتفقوا..«. والباحث »اديب نعمة« المستشار وخبير التنمية لدي اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للامم المتحدة، علي حق عندما يقول ان الايديولوجيات القومية والدينية المتطرفة لم تنجح في توحيد فئات المجتمع ولم تنجح في توليد مناخ التغيير العابر للحدود من تونس ومصر الي مختلف الدول العربية، والتي يكثفها شعار »الشعب يريد إسقاط النظام«، ولكن الذي نجح هو خطاب الدولة المدنية الحديثة الديمقراطية، الذي تجاوز الكثير من الانقسامات والاختلافات في وجهات النظر والاتجاهات داخل البلد الواحد. انه الخطاب الذي يستبعد فكرة »الدولة الدينية« التي تعجز عن توحيد التيارات والاتجاهات والمجموعات السكانية المختلفة والطبقات الاجتماعية المتنوعة، بينما يشكل خطاب الدولة المدنية الديمقراطية خطابا مشتركا لدول متعددة تتفاوت ظروفها بشدة، من اليمن الي المملكة المغربية، مرورا بكل الدول العربية الأخري. حقا.. ان كلمة السر في نجاح الثورات انها تحمل مشروعا للمجتمع كله. أما اذا حدث تشتت يؤدي الي تيارات متنابذة ينغلق كل تيار منها في خطابه الخاص ويبتعد عن فكرة الديمقراطية وتداول السلطة وبناء الدولة المدنية الحديثة، فانه يعني تآكل الإجماع الوطني وتعثر مسيرة الثورة. ويقول »بيير أسنير«، مدير البحوث والدراسات الدولية في باريس، ان التعصب الديني لم يعد يجتذب الشباب في العالم العربي، بينما تستعيد مباديء حقوق الانسان والديمقراطية شبابها، ويجازف الملايين من الثوار بحياتهم، وهم يرفعون شعارات »الحرية - العدالة - الكرامة«، في مواجهة الديكتاتوريات الأبوية والرأسماليات التسلطية والطفيلية. والعالم العربي مدعو الآن الي الاحترام المطلق للوجود الانساني في تنوع اختياراته وتنوع أديانه في غير تشنج أو انقباض أو عداء، بعد ان ظل لزمن طويل يغرد خارج سرب الحداثة ويعاني من آلة القمع العمياء ومن أنظمة متكلسة ومجتمعات محنطة وثقافة العائلة والقبيلة والطائفة. ثوار 52 يناير كانت تحدوهم الرغبة في التحرر والتجديد والابتكار والتواصل، وإكمال انسانية الانسان، والإرتقاء بها الي أعلي المراتب، واطلاق الفكر من القيود التي تكبل وتعوق انطلاقه، والمشاركة الفعالة في صنع القرار، وتجاوز عثرات التاريخ ومظالمه ومساوئه. كانوا يدركون ان التغير السلمي الهاديء هو شبكة الأمان للانتقال الي اوضاع أفضل بكثير. الثورة فرصة تاريخية للنهوض ويقظة روحية.
أما الفتنة، فانها -بدلا من ان توحد المجتمع- تفجر الصراع بين المواطن والمواطن. وتنتشر الفتنة عندما يحاول كل فريق فرض مطالبه علي الفريق الآخر. والفتنة تعني انقسام الناس وتعتمد علي نشر الكراهية والبغضاء بين الاطراف. واهم أدوات عمل القوي المضادة للثورة: الفتنة. والفتنة تصنع أدواتها: خلق الانقسامات وتوسيعها وتأجيج نيرانها. وفي الفتنة، يحقق الفريق الفائز مكاسبه عن طريق حرمان الفريق الآخر من هذه المكاسب أو انتزاعها منه، وقد تكون الفتنة خسارة لفريق، ولكن الأرجح ان نتائجها هي الخسارة للجميع. وربما يكون أمد الثورة قصيرا، ولكن أمد الفتنة.. طويل. وفي الفتنة ينقطع الحوار بين المواطنين. والطائفية تصادر المجتمع فردا.. فردا وتناهض العيش المشترك وتفرز ازمة دائمة قد يستدعي مدخلات خارجية مع تفاقم الفتنة. ولا يتكون المجتمع -في هذه الحالة- من مواطنين أحرار، بل من رعايا الطوائف الذين يخضعون لسلاطينها. وتحصر الطائفية.. الهوية في انتماء واحد، وبذلك يفقد الفرد حريته، لأنه لا يستطيع إلا ان يكون عضوا في الطائفة، ويتقيد في إرادته السياسية بما تفرضه هذه الطائفة. ومن هنا تتعارض الطائفية وتتناقض -كليا- مع الديمقراطية. وما تحتاجه الأمة الآن -اكثر من أي وقت مضي- هو التوحد، وتغليب عوامل التوحد علي عوامل الفرقة. واذا كان الشعب، في زمن الثورة، يستطيع ان يحقق المستحيلات.. فان تحرير المواطنين من الاحتقان الطائفي.. أبعد ما يكون عن المستحيلات.. بل هو إحياء لروح 52 يناير.