قامت الثورة شابة عفية، وبالصمود والإصرار فرضت إرادتها فأسقطت نظاما مستبداً وقدمت رئيسه ورموزه للمحاكمة، ثم شرعت تزلزل بقية أركانه ودعائمه، فما استعصي عليها شئ إلا التناقض. والتناقض نقيصة مزمنة عانتها مسيرتنا السياسية مع بداية القرن التاسع عشر مع ثورة الأشراف، إذ قاد عمر مكرم ومشايخ الأزهر الثورة علي المماليك، لخلع خورشيد باشا وتولية الألباني محمد علي والياً علي مصر في مايو 1805. وهنا تجلي التناقض، إذ خلعوا محتلاً وعينوا محتل جديد سرعان ما انقلب عليهم، وكان يمكن أن يوكلوا الأمر لأحدهم. وفي تاريخنا المعاصر تجلي التناقض أيضاً في مظاهر سياسية عديدة حيث تحولت فلسفة النظام من حاكمية الدولة القوية في عهد عبد الناصر إلي تفكيك الدولة الرخوة في عهد مبارك، ومن استقلال القرار الوطني الداعم لمحاور الأمن القومي في دوائره العربية والأفريقية والإسلامية مع نظام يوليو إلي توجه تابع للسياسات الأمريكية ذ الإسرائيلية في نظام مبارك. ومن دولة ترعي حركات التحرر العالمي وتؤسس لمؤتمر باندونج وحركة عدم الإنحياز والحياد الإيجابي والمؤتمر الأفروأسيوي والتوجه الاشتراكي والعدالة الإجتماعية إلي دولة معادية بطبيعة نظامها السياسي للمعسكر الاشتراكي ومنحازة كلية للسياسات الأمريكية وتوحش الرأسمالية واستغلالية العولمة وآليات السوق والطبقية، دولة تنكرت لدورها وراحت تبدد رصيدها وتفقد محوريتها في إقليمها وتهمل علاقاتها الإفريقية بما هدد شريان الحياة وتدفقه من المنابع إلي المصب. تجلي التناقض أيضاً داخل نظام مبارك الذي تبني خطاباً سياسياً كاذباً كرس لفخامة الصياغات عن الديمقراطية والليبرالية والشفافية والبعد الإجتماعي والإصلاح الإقتصادي بينما اتسم الواقع بالفقر المدقع سياسيا واقتصاديا في نظام الفساد والاستبداد الذي دمر أسس الدولة وفكك مؤسساتها وكرس لإزدواجية المعايير والنهب المنظم وامتهن الدستور والقانون واستبعد الكفاءات وجرف كل أفق محتمل للتقدم والحداثة. كان التناقض حاضراً طوال الوقت في أذهان الناس وآذانهم وأمام عيونهم يكرس له إعلام اتسم بالغباء وأحادية الرؤية والتفاهة والكذب. عندما قامت الثورة كان الشعب غير مستعد للتعايش مرة أخري مع التناقض، لم يؤصل الناس في حياتهم ومعاناتهم المريرة مع النظام السابق أين تحديداً كان الخلل، فقد حاصرهم أينما ذهبوا وحيثما كانوا، هم لم ينظروا للأمر من زاوية المفاهيم والرؤي والقناعات والدراسات، بل كانت تكفيهم الاحباطات والتناقضات في التعليم والصحة والاسكان والأجور والأسعار والمعاشات والإنتخابات، باختصار فاض الكيل وماعاد هناك متسعاً لمزيد. مع الثورة الشابة تفاءل الناس خيراً بواحد من الثواركان بينهم في الميدان، حمله الشبان علي الأعناق وأتوا به رئيساً للحكومة، كلفت الثورة الشابة د.عصام شرف برئاسة الحكومة وإذا به - وأياً ماتكون الاعتبارات والظروف- أتي لهم بحكومة مسنة. وكانت صدمة المفارقة مدوية نكأت جراح التناقض وألقمت الجرح ملحاً تجرعه الناس علي أمل واثق في الثائر الشريف الذي علقوا آمالهم عليه خصوصاً أنه لاقي ترحاب وتقدير المؤسسة العسكرية التي حمت الثورة وكانت سبب نجاحها. صحيح أيضاً أن حكومة عصام شرف المسنة يأتي ضمن أعضائها شخصيات علمية مرموقة مشهود لهم بالكفاءة، لكن الثورة عملية تغيير جذري حاد وعاجل وطموح وقوي وعفي وقادر، الثورة لاتحتمل البطء والتسويف والإرجاء كما يمكن للإصلاح أن يحتمل، لكن ثقة الناس في المجلس العسكري وفي د.عصام شرف جعلتهم يبتلعون أفعالا وأقوالاً وتصرفات ماكان ينبغي لها أن تحدث، سواءً في مصطبة الحوار الذي فشل أو التغييرات الإعلامية التي تأخرت وتأولت وتزحزحت وترنحت أو تشكيل مجلس حقوق الإنسان الذي جاءت كثيراً من اختياراته مكرسة للتناقض الذي أوجع الناس أن تتصدر أسماء بعضاً من القوي المضادة للثورة قوائمه، وكأننا خلصنا بالثورة من الرجل "الشامخ " باصطلاح الأستاذ نصر القفاص الذي يقصد به السيد صفوت الشريف لتئول أمورنا بالثورة أيضاً إلي الرجل "الطود الراسخ" بتقدير د.يحيي الجمل ويقصد به نفسه المصونة. كان التناقض موجعاً وكأن أحدا ليس له إلا أن يشغلنا في لزوم مالايلزم ويعكر علينا صفو أيام الثورة الجميلة فيضيف إلي وجهها البرئ البكر مساحيقاً وألواناً تأنفها الفطرة السليمة في نجوع فقيرة من الريف البعيد. مرة أخري إكراماً للجيش وقياداته الوطنية المخلصة وللعالم والثائر عصام شرف يحتمل الناس ويتقبلوا، لتأتيهم حركة المحافطين بما لم يأته الأوائل من نظام القيادة والريادة وأزهي العصور عند الرجل الشامخ "بسلامته". السادة المحافظون بلااستثناء فوق السن، استدعي أغلبهم علي عجل من جدول المحالين للتقاعد ليتبوءوا مقاعدهم الثورية في المحليات التي تحتاج جهداً غير عادي للخروج من مستنقع الإهمال والنسيان إلي آفاق التطوير والتحديث والنهضة، ناهيك عن وهدات التخلف الإداري والفساد. وهنا تجلي التناقض وأطل بوجهه القبيح يستخف بالناس ويغتال طموحاتهم، خصوصاً مع تصريح اللواء محسن النعماني بأن الإختيارات جاءت وفقاً لقدرات حضراتهم علي التفاعل والتواصل مع الجماهير، ونحن لم نعرف لأحدهم سابق خبرة في العمل العام ولم نسمع أن أحدهم ألقي محاضرة عامة أو شارك في أنشطة المجتمع المدني أو كتب مقالاً في شأن عام أو مارس عضوية نشطة في نقابة مهنية أو حتي نادي إجتماعي أو رياضي. إذا كانوا فرضوا علي د.عصام شرف فلماذا جاءت صورهم في مشاورات ومداولات معه قبل إعلان الحركة، إذ كان يمكن أن يقابلهم بعد أداء القسم. لهذا ضاق الناس ذرعاً بما يحدث وكان التناقض حاداً بين المطالب المشروعة للناس والفوضي المرفوضة بالتظاهر وقطع الطرق. يادكتور شرف وقد بدأت حكومتك تعمل لاستعادة مكانة مصر، خلصنا بالعمل والإنجاز من التناقض مابين الثورة الشابة والحكومة المسنة، أعانك الله.