عندما كنت بالقاهرة أثناء الانتفاضة المصرية، أردت ذات يوم تغيير الفندق الذي أنزل به، لكي أكون أقرب إلي ميدان الحدث، واتصلت بفندق " ماريوت " لأري إذا كانت لديهم غرفة شاغرة. وحدث أن ردت عليَّ فتاة مصرية من مكتب الحجز ثم سألتني : هل تعمل لشركة معينة ؟ " فأجبتها : " لا أعرف ولكنني أعمل لصحيفة نيويورك تايمز ". وهنا ساد الصمت الهاتف للحظات قبل أن تقول : " تسمح لي أسألك سؤالا؟ ".. فقلت : " بالتأكيد ".. قالت : " تفتكر إن أحوالنا هتتحسن.. أنا قلقانة ؟ ". وقمت بتسجيل هذه الملاحظة التي أبدتها الفتاة في عقلي، لأنها صدرت عن فتاة تنتمي إلي شباب ميدان التحرير. وها نحن نبدأ الآن في معرفة سر قلق هذه الفتاة من متابعتنا ما يجري في مصر وفي أماكن أخري بالمنطقة. دعونا نبدأ بتركيبة الدولة العربية. ولنعود بالذاكرة إلي موجة الديمقراطية التي اجتاحت بعض دول أوروبا في عام 1989 في أوروبا، كانت كل دولة من هذه الدول في الحقيقة أشبه بألمانيا، أمة موحدة، ما عدا يوغوسلافيا.أما العالم العربي فهو علي النقيض تماما. فكل دولة عربية في واقع الأمر هي يوغوسلافيا ما عدا مصر وتونس والمغرب. هذا ما يجب أن نعترف به. ففي أوروبا وعندما تمت الإطاحة بالقبضة الحديدية للشيوعية، كانت الدول الموحدة التي لديها سمات المجتمع المدني قادرة علي التوجه نحو حكومة مركزية، ولم يكن بمقدور يوغوسلافيا التي تعاني انقسامات عرقية ودينية ذلك فانفجرت إلي شظايا. في العالم العربي، معظم هذه الدول تقريبا يوغوسلافيا، تجمعات عرقية، ودينية، وجماعات قبلية، جمعتها معا القوي الاستعمارية ذ ما عدا مصر وتونس والمغرب. لذلك، فعندما ترفع الغطاء الديكتاتوري عن هذه الدول، فسوف لن تطلق العنان لقيام مجتمع مدني، وإنما لاندلاع حروب أهلية. وهذا هو ما يفسر لنا انتهاء الثورات السلمية الديقراطية العربية في مصر وتونس لأن المجتمع بأكمله في كل دولة من هاتين الدولتين كان مؤهلا لأن يعمل كأسرة واحدة لإسقاط رأس الشر " الديكتاتور ". ومن هنا، فعلينا أن نأمل في قيام " صحوات عربية مماثلة " أو فإننا سنكون بصدد حروب أهلية عربية. أما الدول التي تعد بقيام " صحوات " وليست " حروب أهلية " هي المغرب والأردن، حيث وجود ملوك، لديهم قدر من احترام أنفسهم، بحيث يمكنهم قيادة عملية تحول تدريجي نحو الملكية الدستورية. أما سوريا وليبيا واليمن والبحرين التي تمزقها الانقسامات القبلية والعرقية والدينية فقد كان من الممكن في وقت مضي أن تشهد صحوات سلمية تقود بشكل تدريجي وسلمي إلي الديمقراطية، ولكن فات أوان ذلك علي ما يبدو. فغريزة حكام هذه الدول الأساسية هي قمع المظاهرات وإسالة الدماء. وفي هذه الدول الآن هناك مشاعر عداء مكبوتة بين الجماعات الدينية والقبلية، التي استفادت وأثرت بسبب علاقتها بالديكتاتور الحاكم من جهة، والجماعات الدينية والقبلية الأخري التي قمعها نفس الديكتاتور الحاكم بوحشية من جهة أخري. ومن ثم، فلو تمت حتي الإطاحة بالديكتاتور الحاكم فإن الصراعات الأهلية سوف تسحق الآمال الديمقراطية. والآن السؤال : هل هناك ما يمكن أن يحول دون حدوث هذا ؟.. نعم.. بوجود قيادة استثنائية تصر علي دفن الماضي، ولا تسمح للماضي بدفنها. العالم العربي في حاجة إلي صياغة نسخته الخاصة من قيادة استثنائية تتمثل الزعيمين الجنوب إفريقيين نيلسون مانديلا وفريدريك دي كليرك اللذين تصديا للانقسامات العرقية والقبلية وسعيا لقيام دولة موحدة. من هنا تبدو الحاجة إلي ظهور قيادات عربية استثنائية تسمو فوق مسألة سنة وشيعة مثلا لكي تشكل لحمة اجتماعية جديدة. لقد فاجأتنا الشعوب العربية بانتفاضاتها البطولية، والآن نحن في حاجة لقادة عرب يفاجئوننا بطرح أنفسهم كنسخة جديدة تتمتع بالشجاعة والنظرة الثاقبة، النسخة التي طالما كانت غائبة عن العرب. خيار آخر مطرح، وهو تدخل القوي الخارجية كما أمريكا في العراق، والاتحاد الأوروبي في أوروبا الشرقية، للعب دور " الحكم " أو " المدير الفني " للجماعات المتصارعة لقيادة عملية التحول الديمقراطي ، ولكنني لا أري أي قوي خارجية تقدمت حتي الآن للقيام بهذه المهمة. وبغياب كل هذه البدائل، فسوف يكون لديك ما هو لديك الآن، أو بمعني آخر ما تراه يجري الآن في سوريا وليبيا واليمن والبحرين حيث يستمر قمع المتظاهرين عملا بمبدأ سائد هناك " إما أن نحكم أو نموت ". وعندما تتحدث مع السعوديين - الذي أرسلوا قواتهم للبحرين لوقف أي توجه نحو إقامة ملكية دستورية هناك -عن الإصلاحات السياسية فإنك تبدو كمن يتحدث معهم باللاتينية، فالإصلاحات تعني بالنسبة لهم أن ينتقل الحكم من السنة إلي الشيعة. لا زلت أومن بأن الحركة الديمقراطية العربية قد أضحت حتمية، وضرورية، ولم يعد من الممكن وقفها، لأنها تجسد قضية إنسانية هي قضية البحث عن الحرية، ولكن بدون قيادة استثنائية فسوف تكون عملية التحول الديمقراطي أصعب مما كانت عليه في أوروبا الشرقية.. صلوا من أجل أن تصبح الدول العربية التي تشهد ثورات الآن ألمانيا.. تمنوا أن تكون هذه الدول جنوب إفريقيا.. واستعدوا لكي تكون هذه الدول يوغوسلافيا.