لأن الاسلام بطبيعته لا مكان فيه للدولة الدينية سواء علي مستوي فلسفته العامة أو انفتاحه أو تجاوبه مع مقتضيات الحياة وظروفها وهو الذي يتضح في قول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.. انتم اعلم بشئون دنياكم.. فالدولة الدينية لم تكن موجودة في يوم من الايام. واذا بدأنا بالدولة الاولي التي اسسها الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم بعد الهجرة إلي المدينةالمنورة سنجد انها كانت دولة تقوم علي اساس ما نسميه اليوم بحق المواطنة. وان لم ينص صراحة علي هذه الكلمة الحديثة كلمة المواطنة صحيح ان الكلمة في دولة المدينة كانت للرسول الكريم الذي اجتمعت في شخصه الرسالة مع مقومات القيادة كان اتفاق الدفاع عن المدينة يضم ثلاث فئات هي المهاجرون والانصار من اهل المدينة واليهود وعندما حدثت خيانة بعض اليهود في غزوة الاحزاب لم يقاتل المسلمون كل اليهود، وانما تم ترحيل وغزو بني قريظة وبني النضير الذين خانوا شرف المواطنة وهو اجراء تتخذه الدولة الحديثة ضد اي مواطن يخون شرف المواطنة ويتعاون مع الاعداء. وفي اطار هذه الدولة الوليدة لم تطبق الحدود الاسلامية علي غير المسلم لا في الزني ولا في شرب الخمر أو الربا أو اي من الكبائر في الشريعة الاسلامية، لم يكن هناك اي تطبيق لهذه الحدود إلا علي المسلمين الذين اختاروا الاسلام ديانة وشريعة ووجب عليهم الالتزام بها. وبعد وفاة الرسول الكريم »صلي الله عليه وسلم« سار الخلفاء الراشدون من بعده علي نفس النهج وكانت اولي الحروب التي خاضها ابوبكر الصديق »رضي الله عنه« ضد المرتدين مقولته الشهيرة »والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلي رسول الله لحاربتهم عليه« وهذا القول معناه انه رضي الله عنه كان يحارب المنشقين علي الدولة وقد عرف ان دافعهم إلي الردة كان التنصل عن واجب الزكاة الذي يمكن ان نعتبره مساويا لواجب الضرائب في الدولة الحديثة. وعندما اتسعت حدود الدولة الاسلامية علي عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأينا كيف كان حريصا علي حرية غير المسلمين وفي السيرة العطرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه الكثير والكثير من الوقائع التي تؤيد هذا الامر فهو الذي رفض الصلاة داخل كنيسة القيامة حتي لا يأتي من بعده من يقول ان هذا المكان صلي فيه عمر ويحاول تغييره إلي مسجد وهو الذي حذر منه عمرو بن العاص من اكراه سيدة مصرية علي التنازل عن منزلها من اجل اقامة مسجده، كما ساوي رضي الله عنه بين المسلم وغير المسلم في رعاية الدولة لمواطنيها. »ويروي انه رضي الله عنه رأي كهلا يهوديا يسأل الناس، فسأله ما الذي حملك علي السؤال؟ فاجاب الرجل الحاجة والسن، فاخذ عمر بيده وذهب إلي منزله واعطاه عطاء سخيا ثم ارسله إلي خازن بيت المال مع رسالة قال فيها انظر هذا وضرباءه »امثاله« فوالله ما انصفناه ان اكلنا شيبته ثم خذلناه عند الهرم. »انما الصدقات للفقراء والمساكين، وهذا من مساكين اهل الكتاب«، كذلك امر رضي الله عنه باعطاء الصدقات لجماعة من المخذومية بالشام وامر بان يجري عليهم القوت بانتظام. اما تاريخ المعارضة في الاسلام فلم يقم علي التكفير وانما علي ارضية سياسية في رعاية وحفظ مصالح الناس وابوذر الغفاري الصحابي الجليل اشهر من قام بهذا الدور عندما رأي التباين الكبير بين الاغنياء والفقراء في عهد الخليفة عثمان بن عفان لم يتحدث عن التكفير بل عن العدالة الاجتماعية. كانت الدولة اذن دولة لسكانها تدبر عيشتهم وتسن قوانينها وتجرب طرقا للحكم جديدة علي مجتمع الجزيرة العربية الذي لم يعرف الحكومة المركزية قبل الاسلام، اي ان الاسلام كان فرصة لتأسيس الدولة بمعناها الحديث فوق نظام القبيلة المستقلة الذي كان سائدا قبله وبتحول الدولة إلي النظام الملكي علي ايدي الأمويين سارت الامور كما تسير في الامبراطوريات والدول الاخري، واستوعبت الدولة كل مواطنيها واحتل فيها اليهود والمسيحيين مراكز مرموقة فكان فيها الوزراء واطباء الخليفة وغير ذلك من مناصب شديدة القرب وشديدة الحساسية. وعندما تدهورت دولة العرب في الاندلس وانهزمت امام المسيحيين طرد الاسبان المسلمين ومعهم اليهود، وتعرض المسلمون واليهود لنفس القتل والتنكيل بهم وقد سارت الامبراطورية العثمانية علي نفس النهج المتفتح في التعامل مع رعاياها والاستفادة من كل امكانيات وطاقات سكانها حتي قام كمال الدين اتاتورك بثورته العلمانية رافعا شعار تركيا اولا، متخليا عن الامبراطورية وواضعا القوانين التي تمنع اي حكم علي اساس ديني ومنح الجيش التركي حق حماية العلمانية وهو النظام المعمول به حتي الان. ان الدولة الدينية المزعومة لا توجد إلا في اذهان من يطالبون بها اليوم ولم تكن موجودة في الاسلام يوما ما وان وجدت في المسيحية.. وفي كل الدول التي عانت من الدولة الدينية لا تحمل لها الآن إلا الذكريات السيئة والدامية فالله خلق الناس واستخلفهم في الارض لكي يديروا شئونهم بانفسهم وبالطريقة التي تناسبهم وكلما لجأت حكومة إلي الدين فانها لا تلجأ اليه إلا لكتم الاصوات وخنق المبادرات. والذي يتأمل حال اوروبا تحت حكم الكنيسة وحال المسلمين في تلك الفترة يدرك ان هذا الفرق لم ينتج إلا عن الفرق بين دولة يكبلها رجال الدين بالحلال والحرام من خلال الهوي ودولة تطلق حرية مواطنيها في التفكير والابتكار ففي الوقت الذي كانت محاكم التفتيش الاوروبية تفتش في قلوب اتباعها وتقيم المحارق لكل من يتجرأ علي التفكير أو الاختراع، كانت الابتكارات تتوالي في العالم الاسلامي في الحساب والهندسة والطب والفكر ولولا هذا الانفتاح في الدول العربية ما كانت اوروبا لتعرف شيئا عن سقراط وافلاطون ولا الفلسفة اليونانية القديمة والتي ايدت كتبها بالكامل واعتبرتها الكنيسة هرطقة تقود من يتعاطاها إلي المحرقة بينما كانت ترجماتها تدرس في اشبيلية وبغداد والقاهرة وهكذا عاشت هذه الفلسفة وتعلمها اهلها من جديد بعد ان تحرروا من حكم الكنيسة وبنوا عليها نهضتهم الحديثة التي تثير تحفزنا الان. ومن المؤسف ان نجد بيننا في الالفية الثالثة من يدعو إلي الدولة الدينية، تحت شعارات فضفاضة تنطلي علي البسطاء وتصنع الفرق بين ابناء الوطن الواحد.