يبدو التليفزيون وسلية سهلة للتواصل، لا يحتاج لقدرة علي القراءة، ولا لجلسة خاصة ولا يحتاج حتي لإضاءة النور عند المشاهدة. كل ما عليك أن تستلقي أمامه وتترك رأسك أمانة في أيدي فلاسفة التليفزيون من المذيعين وضيوفهم، الذين يعرفون كل شيء ولديهم رأي جديد في قضية جديدة كل ليلة! هذه البساطة الغدارة هي التي تسرق وعي المشاهد، ولن يخرج أحد منها سليمًا إلا إذا تسلح بالشك ووضع في اعتباره أن المتحدثين قد لا يعرفون الحقيقة أو قد لا يريدون قول الحقيقة أو قد لا يحسنون التعبير عن الحقيقة. وهناك علماء اجتماع مرموقين اجتهدوا لكشف عمليات تضليل المشاهد، كما حدث مؤخرًا في التصويت علي تعديلات الدستور التي أصبحت تصويتًا مع الدين أو ضد الدين. صناعة التزييف تبلغ الثمانين عامًا، حيث ابتدع أحد مفكري أمريكا في ثلاثينيات القرن الماضي مبدأ "هندسة الموافقة" وهو باختصار: "أن تترك الناس تختار بحرية، بعد أن تتأكد من أنهم لن يختاروا إلا من حدده لهم الإعلام". في البدء كان الصحافة والراديو، ومنذ أصبح التليفزيون وسيلة جماهيرية في ستينيات القرن العشرين قام بدور حامل الراية أمام كتائب تلوين الحقائق. ومشكلة المواطن في المجتمع الرأسمالي كما يقول نعوم تشومسكي أنه لا يجد الوقت كي يسأل جاره إن كان ما يقوله التليفزيون صحيحًا أم لا! وهناك عديد من الكتب المهمة في كشف الملعوب، من بينها "المتلاعبون بالعقول" للأمريكي هربرت أ.شيللر وقد صدر عام 1974 ويترجم إلي العربية عام 1999 في سلسلة عالم المعرفة الكويتية بترجمة الراحل عبدالسلام رضوان، وهناك أيضًا "التليفزيون وآليات التلاعب بالعقول" الذي أصدره الفرنسي بيير بورديو عام 1996 وهو متاح بالعربية كذلك في ترجمة درويش الحلوجي عن دار ميريت، وكلاهما يشرح كيف يقوم مروضو العقول بإغراق المواطن بآراء يتبناها باعتبارها وعيًا جاهزًا ويتخذ قراراته بناء عليها. وقد لا تقوم السيطرة بناء علي مخطط، بل تتم تلقائيًا لأسباب اقتصادية وسياسية غير مطروحة للنقاش، منها مثلاً نمط الملكية. في أمريكا تتحكم بالسوق شبكات عملاقة مصالحها متشابهة، ولذلك فالعدد الكبير من البرامج يوحي بالاختلاف لكن مضمون الرسالة واحد. في مصر لدينا تليفزيون الحكومة وقنوات رجال الأعمال. وقد قامت الثورة ضد الزواج الباطل بين السلطة ورأس المال. وكل ما تمكنت منه الثورة حتي الآن أنها فرقت بينهما في المضاجع، لكن عقد النكاح لم يزل قائمًا. وكل كعبلة للثورة في صالح السياسيين ورجال الأعمال، لأن من لا يملك أعطي من لا يستحق الأرض والمصانع والامتيازات. وكلاهما (من أعطي ومن أخذ) ينتظرهما السجن. هذه الشراكة لابد أن تكون في بال المشاهد عندما يستريح أمام التليفزيون. وعندما يضعها في حسابه سيفهم كيف عرضت قناة خاصة وليس تليفزيون الحكومة الثائرة المزيفة التي قالت إنها تلقت تمويلاً وتدريبًا أمريكيًا علي استخدام السلاح. وتتشابه وسائل التزييف في كل تليفزيونات الدنيا، وأولها المغالطة في الأجندة بترحيل الأهم للخلف؛ فقد تشاهد مثلاً حلقة ممتازة عن كشف شبكة جاسوسية، لكن جهة التحقيق تسربها في هذا الوقت بالذات لخطف الأنظار بعيدًا عن تمرير تجديد الطواريء في ذات الليلة. والمذيع قد لا يكون متواطئًا لكن السباق علي الجديد هو العلف الشهي للكاميرا. يعدد هربرت. أ. شيللر طرق للتلاعب، ومن بينها التجزيئية، بحيث تأتي الحلقات مثل طلقات مدافع مصوبة إلي كل اتجاه بلا رابط. ملف الشرطة في اتجاه، المرتبات في اتجاه، الدستور، الانتخابات الخ، مع أن عودة الشرطة مرتبطة بتحسين المرتبات وضمان نزاهة الممارسة الشرطية مرتبط بالدستور والقانون والانتخابات مرتبطة بالدستور وعودة الشرطة وتحسين المرتبات حتي لا يبيع الناخب صوته بسندويتش. التجزيئية خطرة لأنها تمنع الحلول الجذرية، ومع ذلك تبدو علي العكس تمامًا، فهي توحي بالتنوع وتحقق الحرية الوهمية للمشاهد، وهذا يزيد من رضا المشاهد عن نفسه، ويوهمه بالاستقلال لأنه يختار، وبالنشاط لأنه بذل الجهد في تصويب الريموت لينتقل من قناة لأخري، لكن الحقيقة أنه نائم علي كنبته وأن ما يقال هنا هو نفسه هناك، وأن الهدف النهائي قد تحقق وهو إغراقه في السلبية من خلال تهميد جسده وعقله وتشتيته بين عشرات القضايا إلي حد اليأس: يا خرابي! من سيحل كل هذه المعضلات؟! بورديو من جانبه ينبه إلي خطورة اللهاث لكسب الإقبال الجماهيري، مما يجعل القنوات لا تتردد في استضافة المحرضين علي العنف والأفكار العنصرية (حلقة عبود الزمر نموذجًا). أما سمة ثبات الضيوف؛ فهي واحدة، من نراهم في تليفزيونات أية دولة لا يتعدون العشرين شخصًا، يتنقلون بين القنوات، ومن كثرة التلاقي يصبحون أصدقاء وشركاء في مسرحية تم تقسيم أدوارها والتضامن فيما بينهم ليستمر العرض ليلة بعد أخري. وباختصار، هناك الكثير من الأسباب التي تجعل من واجبنا الشك فيما يقال، وإلا سيحشو التليفزيون أدمغتنا بمعلومات تجعلنا نتوهم أننا أصبحنا نعرف أكثر، بينما نكون في الحقيقة قد خرجنا من المشاهدة بوعي أقل مما كان لدينا قبلها.