أفهم أن الديمقراطية هي : أن يقول كل إنسان رأيه بحرية، لا أن يفرض كل إنسان رأيه بالعافية، أن يناقش بوضوح .. وليس أن يتهم الآخرين بغموض، أن يستمع بعقل نظيف.. دون أن يقتل بمخ قذر، أن يمارس حقه في الإختيار الصحيح من وجهة نظره.. دون أن يمارس عليه كل أنواع الإرهاب من أجل إختيار بعقل إنسان بديل . المتاح في الأسواق المصرية الآن : ديمقراطية ديكتاتورية، سبق أن مثلها وعبر عنها الفنان محمد صبحي في مسرحية تخاريف التي كتبها الكاتب المبدع لينين الرملي قبل 20 سنة تقريبا، بدت أنها نبوءة إكتفينا بالضحك عليها لقدرتنا علي التعامل مع الديمقراطية، الديمقراطية اليوم : رأيك يهمني ويسعدني وأحترمه إذا كان هو رأيي، أو يتفق مع رأيي ! وكل ديمقراطية لها نموذج، فمنها نموذج شهير أفرزه العقيد القذافي في أيامه الأخيرة إنها: ديمو... الكراسي، دامت السلطة بكل طرق اللف والدوران والإستهبال السياسي والمراوغة وإنك تعمل فيها مجنون، ومنها نموذج أمريكاني أخرجته السينما في هوليوود ببراعة وميزانية ضخمة حيث تبدو الحرية هناك مثل مضغ اللبان وفرقعة بالونات في الهواء، وهو مالا يحدث بالمناسبة علي أرض الواقع في أمريكا حيث النفط يحكم واللوبي الصهيوني يقود ومليارات الأغنياء توجه وكاميرات الإعلام لا تتردد عن إختراع أكاذيب كبيرة تروج لها وإضافة هوامش ومساحات لفضائح صغيرة يحولها إلي سحب ممطرة في سماء الإعلام بإسم حرية التعبير والمعلومات، وهناك ديمقراطية يفصلها الحكام بأيدي حكماء زمانهم وعصرهم مثل أن نترك الكلام مباحا والصراخ متاحا وتبادل الإتهامات بشكل متفق عليه ونرسم علي المسرح مقاعد وموائد ونضع علي رأس كل مائدة إسم حزب سياسي، ونشكل لجنة لمتابعة حقوق الإنسان تصدر تقارير دورية وهي تجلس في أجنحتها المعطرة في فندق كبير، يخرج بين الحين والآخر شخص فارغ يعلن أنه معارض شرس، يهتف يهتف ثم يوضع في سجن خصوصي سنوات ويعود منفوخ الوجه متورد مسبسب الشعر ويضع علي ظهره آثار تعذيب زرقاء ويهتف يسقط النظام يسقط النظام، وهناك ديمقراطية بالورقة والقلم، كل شيئ فيها مرسوم بدقة، كده وكده، دستور وقانون ونواب ومحاكمات، ومائدة مستديرة تجمع ميكروفوناتها كل صراخ عابر، بينما تحت المائدة هناك مستعمرة من المافيا ورجال المال ورجال الدين لامانع، تضغط وتمرر وتهذب وتحاسب وتقرر . الديمقراطية، بعيدا عن المصطلح الذي يمكن أن تجد تفسيره بالبحث في جوجل، هي وحظها، هي ونصيبها، في أي بلد تتم زراعتها، وفي أي طقس تنتج ثمارها، وفي مصر، عرفنا الديمقراطية حسب ماعشناه من عمر وحسب ماقرأنا عنها في كتب التاريخ بكل أشكالها وأحجامها، كان لدينا ديمقراطية كومبو قبل إختراع الوجبات الجاهزة، سلطة ونفوذ وثروة وحوار طرشان، وكان لدينا ديمقراطية حجم عائلي، هات وخذ بشرط أن تكون داخل العائلة الواحدة أو المصلحة الواحدة، ديمقراطية يقيمون علي شرفها آخر الليل بارتي يحضره رجال سياسة ورجال مال ورجال إعلام أو نساء لامانع ورجال أمن وخلافه. كله كوم، وديمقراطية اليوم .. كوم آخر، ديمقراطية إنتقاء وليست إختيارا، خذ مثلا : هل سمعت عن لجنة الحوار الوطني، هي لجنة قائمة الآن، تتحاور، في جلسات مذاعة علي الهواء مباشرة، عين العقل، لكن : ماحدش فاهم حاجة، ناس مثقفة علي كل حال، وأحيانا مثقفة علي نفسها، تمسك ميكروفون وكاميرا، ويبدأ الكلام إلي حد الملل، حوار وطني، دميقراطية ديمقراطية علي الهواء علشان ماحدش يزعل أهو لكن في المقابل تردد الأغلبية بكل غيظ : من أنتم من أنتم ؟ من هم. بإسم من يتكلمون، ولمن يتكلمون، وعن ماذا يتكلمون. وماذا أيضا بعد أن يتكلمون ؟ هل يحددون مصير بلد، أمة، شعب، مدن وقري ونجوع، مرة أخري، نموذج جديد للديمقراطية : المسرح يعود، الأضواء تسطع، الجمهور في الصفوف الأولي ناعس ومحبط وطلعان عينه، ومائدة طويلة عريضة لاوجود لها إلا في ديمقراطية العالم الثالث بالمناسبة والله أحيي النجارين الذين لديهم موهبة وإبداع وصبر صناعة هذه الموائد الضخمة ثم.. حوار وطني، حد فاهم حاجة، كلام أعرض من المائدة وأتخن من سمكها، وعبارات إنشاء مطاطة ومصطلحات عميقة ولامانع من نكتة أو دعابة أو سخرية يطلقها المهندس ساويرس الذي يجلس علي المائدة بحكم أنه قبطي بينما يغيب أقباط أكثر وعيا وفهما، بجد .. من اختار هؤلاء، ومن منح نفسه حق إختيار هؤلاء، ولماذا هذا الحوار بينما كل هؤلاء الأبرار يقدمون نظرياتهم وفتواهم وحكمتهم ليل نهار لماذا يستخف هؤلاء بهذا الشعب الكبير العظيم غصب عن عين أي حد لماذا ؟