وهكذا كان عبدالوهاب أول الباكين علي كوكب الشرق أما مصر كلها فمازال فيها من البشر ما يبكون كلما استمعوا إليها من كثرة تفاهة الأحداث الفنية هذه الأيام تعود الذاكرة إلي الزمن الماضي حيث الأحداث تشكل الوجدان المصري.. ولا أنسي لأنني ناصرية حتي النخاع وأحب عبدالناصر جدا لكل تفاصيله من ثورة يوليو وما قبلها حيث حارب في فلسطين ثم اعتلي الحكم في مصر وحاول محاولات وطنية ليحقق أحلامه التي هي أحلامنا في وطن يحكمه شعبه من خلال حكام من قلب الشعب. أذكر احداثا كثيرة منها تفاصيل وفاة أم كلثوم وبكاء عبدالوهاب عند سماعه الخبر وقد كنت محظوظة لأنني كنت مراسلة أخبار اليوم في مستشفي المعادي حينما كانت أم كلثوم تحتضر هناك فكنت أراقب الموقف كله من نافذة زجاجية تطل علي غرفة الانعاش حيث ترقد أم كلثوم ملفوفة في »كوفرتة بيضاء بورود بمبية اللون» ووجهها تحت كمامة الاكسوجين ولم يكن هناك موبايلات بل التليفون العادي ذو الاسلاك وكنت أذهب إلي البيت آخر اليوم فاجد أن الأستاذ عبدالوهاب قد اتصل بي اكثر من مرة. فاتصل به ويسألني بكل التفاصيل الدقيقة من اطباء وعلاج وزوار وقد كانوا قد منعوا عنها الزيارة لأنها في غرفة الانعاش ولايدخلها أحد ولكنني كنت محظوظة لعثوري علي هذا المكان الذي لاتفصله عن غرفة الانعاش سوي هذه النافذة الزجاجية. كان الأطباء في كل المستشفي يتناوبون الاشراف علي كوكب الشرق. وقد قال لي أحد الأطباء: أناأشعر أن مصر هي التي في غرفة الانعاش وليست أم كلثوم انني حينما أعود إلي بيتي أجد عشرات المكالمات من أسرتي وأصحابنا من كل انحاء مصر يسألون عنها بكل شغف وكل حب وكل منهم يعتبرها مريضته. وكان من أجمل ما قيل في المستشفي من احد صغار العاملين »تمرجي» بحجرة الانعاش فقد قال لي: أنا باطمئن علي الست وباعرف كل التفاصيل لأني حينما أعود إلي البيت أجد مظاهرة من الجيران والأصحاب ليسألوني عن تفاصيل مرض الست ومتي تشفي ومتي تخرج من المستشفي ولم اكن أجرؤ أن أقول لهم أنها مجرد وقت وأنه لافائدة وأن الأطباء لايفعلون شيئا سوي وضع الاكسوجين علي انفها حتي تستطيع أن تتنفس. وحينما رأيت الأطباء في غرفة الانعاش من النافذة الزجاجية يغطون وجهها غلبني البكاء بحرارة لدرجة انني كتمت فمي بمنديل حتي لا أزعج من حولي وقد كنت الصحفية الوحيدة الموجودة في مستشفي المعادي حينما كانت أم كلثوم في غرفة الانعاش وكانت تحتضر وكنت أراقبها من نافذة زجاجية تطل علي غرفة الانعاشن ولم يكن هناك في ذلك الحين تليفونات محمولة (موبايل) مثل الآن فكنت حينما أعود إلي البيت يقولون لي عبدالوهاب اتصل بك أكثر من مرة فاتصل بعبدالوهاب وأخبره بتطورات حالة الست وقد استطعت أن أكون أول واحدة توصل الخبر إلي العالم عن طريق الأخبار. وفي يوم الوفاة اتصلت بالأستاذ عبدالوهاب من المستشفي فقال لي: إيه الأخبار هل تحسنت الست؟ فبكيت فقال لي وهو يجهش بالكباء: إيه.. الست خلاص.. وأجهش بالبكاء ثم قال لي: اقرئي لها ياسين.. وخليهم كلهم يقرأون الفاتحة. واستمر في البكاء. من فضلك ضعي مصحفا تحت رأسها.. لقد كانت شديدة الإيمان وكان دائما في حقيبتها مصحف صغير والقرآن لا ينقطع في بيتها من جهاز التسجيل.. انهيت المكالمة والأستاذ يقرأ من خلال البكاء سور قصيرة من القرآن. وهكذا كان عبدالوهاب أول الباكين علي كوكب الشرق أما مصر كلها فمازال فيها من البشر ما يبكون كلما استمعوا إليها.. إنها مازالت معنا.. ومازالت تشجينا ومازالت منفردة وليس لها مثيل وأتعجب لماذا لا يفرد لها التليفزيون قناة يبث من خلالها أفلامها وأغانيها وحفلاتها.. لقد كان كل العرب يضبطون مواعيد زيارتهم ومؤتمراتهم في القاهرة علي مواعيد حفلات الست.. لقد كانت كوكب الشرق فعلا وكانت قادرة علي تجميع العرب علي صوتها القوي وأغنتيها التي كانت تختارها بذكاء بحيث تعبر عن مشاعر الناس ويستمعون إليها وكأنها تسري عنهم وتوجد حلولا وجدانية لمشاكلهم.. رحمها الله رحمة واسعة بقدر ما أعطتنا من سعادة في حياتنا.. وأرجو أن يسمح التليفزيون لنا بأن نستعيد هذا الزمن الجميل. هذا الجيل ليسوا سميعة انه جيل مستعجل.. يأكل بسرعة ويرتدي ملابسه بسرعة ويذهب إلي أي مكان بسرعة وينظر كل منهم إلي ساعته كل خمس دقائق كأنما يتعجل الدقائق لينتقل وجدانيا إلي حالة أخري. جربت ان أراقب أحفادي حينما يغني أحد من المطربين أصحاب الأغاني الجميلة ذات الكلمات المنظومة جيدا وذات الالحان الشجية ولم أجدهم يجلسون في هدوء بل أجدهم يتحدثون في الموبايل لعن الله من اخترعه فهو يقتحم حياتنا بدون »إحم ولا دستور». ولم اجد احدا منهم يتحدث عن كلمات جميلة والحان عذبة فقط شادية الجميلة هي التي يستمع إليها الجيل وكل الاجيال طبعا ولكن أغاني أم كلثوم أو عبدالوهاب أو فريد الاطرش أو قنديل أو غيرهم من أصحاب الأصوات الشجية والذين كانوا يحسنون اختيار الكلمات التي تملأ الوجدان.. خلاص السميعة خلصوا واتجهوا إلي »علو الصوت»، والكلمات الركيكة البالغة الهبوط وقد تعجبت لان كل الاغاني اصبحت مصحوبة برقص حتي للمطربين والمطربات الجادين الذين وجدوا في الرقص وسيلة لجذب المستمعين إليهم أصبحوا يختارون الحانا راقصة قبل ان تكون شجية. حينما طلب عبدالناصر من ام كلثوم لحنا لعبدالوهاب كان الزعيم الاعظم جمال عبدالناصر من السميعة لام كلثوم وهناك حكاية تحتل دائما مكانا من وجداني تلك الحكاية التي سمعتها من أحد ملازمي عبدالناصر فقد قال لا م كلثوم متي نستمع إليهك تغنين من الحان عبدالوهاب؟ ثم قال لعبدالوهاب »متي نستمع إلي الست تغني لحنا من ألحانك». وكان الاستاذ قد لحن لنفسه اغنية انت عمري والتي تقول مقدمتها رجعوني عينيك لايامي اللي راحوا علموني اندم علي الماضي وجراحه واللي شفته قبل ما تشوفك عيني عمر ضايع يحسبوه الناس علي انت عمري اللي ابتدأ بنورك صباحه انت عمري كانت هذه الاغنية هي درة اغاني ام كلثوم وقد كان من حسن حظي انني حضرت مع الاستاذ عبدالوهاب في بنواره بمسرح الازبكية حفلا لام كلثوم وكانت معه حرمه السيدة نهلة القدسي وكانت تربطني بها صداقة قديمة. ظل الأستاذ عبدالوهاب يردد (الله.. الله ياست الله عليكي ياست) ظل يردد هذه الكلمات لدرجة أن المشاهدين استداروا برؤوسهم ليروا الأستاذ عبدالوهاب.. فتوقفت أم كلثوم عن الغناء.. فتوقف عبدالوهاب عن الكلام وعاد السميعة إلي الست فعادت هي إلي الغناء. وقد كنت أحرر وقتها في الأخبار باب اسمه (طبق اليوم) فأحببت أغير فيه فقررت أن أسأل المشاهير عما يحبون لأكتب للناس عن أطباقهم فسألت أم كلثوم عن الطبق الذي تحبه فقالت لي: (العدس الأباظي) وكنت قد نسيت ذكائي فسألتها: كيف تطهي هذا الطبق. وضحكت أم كلثوم ضحكتها المجلجلة الجميلة وقالت لي: اسألي سميرة أباظة صديقتي أنا لا أعرف يا حبيبتي سوي الغناء فقط. رحم الله هؤلاء العظماء ورحمنا معهم فقد عشنا عصرا من الجمال في كل شيء سواء الفن أو السياسة أو الأدب أو حتي الطب والهندسة.. رحم الله هذا الزمن الجميل الذي كان الناس يمشون بالمشاوير ليسألوا عن بعضهم في ود وحب دون زيف. وحشتيني عنوان جميل تلقائي أحسست أنه يصلح لنا جميعا وليس لكابتن كوتا المحاسب صفوت عبدالحليم.. وهو عنوان لأغنية نستطيع أن نغنيها شعرا أو يلحنها ملحن يحب أمه ويغنيها مغني أو مغنية تعشق أمها انه يقول في أغنية أو زجله الجميل. وحشتيني.. يا أول من رأت عيني وأول اسم حبيته يا أول حضن حسيته وأول دنيا تحويني يا روح قلبي ونور عيني وحشتيني وحشني أبص في عنيكي وحشني أحس بإيديكي بتلمس روحي.. تهديني وترعيني وتحميني يا روح قلبي ونور عيني وحشتيني وحشني انده وأقول ماما تردي لتقوللي روح ماما ولما أزعل تحياليني ولما أغلط تسامحيني يا روح قلبي ونور عيني وحشتيني بقيت في الدنيا من غيرك ومين غيرك يشيل همي ومن لفحة هوا تسمي يا ساكنة في روحي وفي دمي يا روح قلبي ونور عيني وحشتيني هذا الزجل الجميل للكابتن المحاسب صفوت عبدالحليم ولكنه شديد المصرية ويمثلنا جميعا سواء في حب الأم أو حب نظم الكلمات وكلنا نحب نظم الكلمات والازجال سواء نكتبها أو نسمعها أو نغنيها.. هذا الزجل يصلح أغنية وبلحن هادي جميل فهل أسمعه قريبا من أحد فنانينا أو فناناتنا انني أهديه لكل أم وكذلك لكل فنان أو فنانة يحب أمه فهو كلمات شديدة البساطة شديدة التعبير عن العلاقة بالام. لو لم تصلني زهور ولدنا الدكتور حازم يس نجل الغالية الراحلة العظيمة سهام قداح لما أحسست بعيد الأم ان زهور ولدنا الدكتور حازم يس هي علامة عامة من علامات عيد الأم كل سنة وأنت حازم يس كما أنت عظيم وحنون دائما.