قال البعض لا.. وقال البعض نعم.. وجاءت النتيجة لصالح نعم لمواد الاستفتاء كما وضعته اللجنة المعينة.. وكان الخروج الكبير لبني مصر.. كل يحمل صوته لأول مرة كأنما يحمل صك عتقه من العبودية.. ماضياً ليدلي به دونما سلطان لأحد عليه.. ولكن ذلك المعني الكبير لا يمنعنا من التساؤل حين نري في الطريق الاعداد لإعلان دستوري يضم ضمن ما يضم التعديلات التي تم الاستفتاء عليها دون التزام بدستور 1791 ولا بأرقام مواده. وبمعني واضح »انكاره وإلغاؤه« وهنا أتساءل واتعجب »ما كان من الأول«.. لم كان الاستفتاء اذن؟ ألم يكن الاعلان الدستوري هو مطلب الثورة في الأصل؟ أما كان هذا بداية الطريق الأقصر بكل الحسابات، والطريق الأضمن للاستقرار نسبياً؟!. ان هذا تكرار لمطالب سابقة.. مثل مطلب حكومة جديدة.. الذي واجه جدلاً كبيراً وتبريرات متنوعة بل واتهامات وتشكيكا في المطلب وطالبيه.. وانتهي الامر الي تغيير جزئي تم رفضه ثم تلاه تغيير كامل برئاسة الدكتور عصام شرف وثبت ان المطلب كان صحيحاً.. وخاصة حين ادرجت بعض أسماء الحكومة السابقة فنحن نعطي قوائم الاتهامات!.. نفس الشيء مع حكاية جهاز امن الدولة.. اذ جري جدل في البداية حول استحالة حله وطرحت تباعاً بدائل المطلب وكلها تقدم تصورات لا تخرج في جوهرها عن ضرورة الابقاء عليه.. حتي جاء الحسم »من لدن حكيم عليم..« فما أن أعلن تشكيل حكومة الدكتور شرف حتي اشتعلت في كل مقار امن الدولة التقارير والوثائق وتعرضت للفرم والابادة.. وفتحت أبوابه من الداخل للجماهير.. كي يترك الفاعلون بعد فرارهم تقارير مزيفة تزرع في الساحة بين الجميع شكوكاً متبادلة ومتعمدة وينكشف ان الجهاز كان ما يزال يعمل مطمئناً حتي فوجيء بخلع حكومة ما قبل الدكتور شرف! وبحله بدأ التصالح الحقيقي مع باقي أجهزة الشرطة الشرفاء.. وان بقيت ذيول له مع النظام القديم تعمل حتي الآن!. تلك الأمثلة وغيرها تثبت ان المطالب صحيحة ومطالب الثورات لا تقبل التجزئة ولا المساومة فلم؟!.. لم هذا النهج؟ لم توجد مسافة دائماً بين نهج الثورة الذي لا يعرف انصاف الحلول.. وبين حقيقة الامور علي الأرض وفي القرارات؟ ولنتحدث بصراحة أكثر. لقد كتبت أكثر من مرة محذراً من بطء إجراءات التطهير.. وتحدث غيري حتي تسارع الايقاع فعلاً.. ولكن نتائج الاجراءات عادت لتأخذ نفس البطء المستفز وخاصة بالنسبة لقلوب وأكباد محترقة علي دماء أبنائها من الشهداء.. واتهامات بدت في الاعلان عنها مرسلة دون استكمال الصورة حول الاجراءات الفعلية والقانونية.. بخلاف رؤوس كبيرة من سدنة وكهنة الفساد السياسي مطلقي السراح حتي الآن مع غيرهم من الذين كانت تطل اشباحهم وأشباح أتباعهم في الاستفتاء الأخير.. مثلما أطلت في ميدان التحرير وفي المقطم.. وفي صول.. وتستعد لما هو آت بما لا نعلم. ولقد نبهت أيضاً الي ان اجراءات البناء والتغيير، يجب علينا وبعكس التطهير ان تأخذ فرصتها من المناقشة والطرح العام.. مع استقرار دعائم الامن وعودة حركة الحياة.. وألا نستقر علي اي خطوة الا باتفاق عام يستند الي مناقشة واسعة واعية.. ولكن كان ما كان مع أول خطوة في البناء الديمقراطي »الاستفتاء«!.. وبقدر فرحتنا بالخروج العظيم كما أشرنا بقدر حريتنا أمام قرار الاعلان الدستوري الذي يدمج لا ونعم.. ويلغي دستور 1791.. عودة الي ما طرحته الثورة!. حوار الطرشان إننا أمام البطء من ناحية والتعجل من ناحية أخري نحتاج الي وقفة ونقر بداية أن ثقتنا في وطنية الجيش المصري قائمة ولا تتزعزع.. وان ثقتنا باستمرار الثورة أمر أكيد مهما كان الوقت أطول.. والثمن لنجاحها أكبر.. ولكن علينا أن نفتح باباً واسعاً لحوار مختلف.. فقد ثبت أنه لم يعد كافياً حوار النخبة مع بعضهم البعض في وسائل الاعلان المرئية والمقروءة، وهو يبدو كحوار الطرشان لأنه منبت الصلة بمن هم أحق بالحوار.. بمعني أن أصحاب المصلحة في الثورة من الشعب المصري لا يشاركون سياسيا في هذا الحوار.. ولعلنا قد نجد مشاركة من بعض المسئولين في الحوار مع النخبة وكان ذلك في البدايات، ولكن دون ان نري لهذه المشاركة علاقة بما يجري علي الأرض.. أي أننا أمام نخبة تتحاور مع نفسها.. وعلي الأرض نهج اصلاحي بايقاع مخالف لايقاع الثورة المطلوبة.. وكلاهما بعيد عن حقيقة الوعي الشعبي في حالته الراهنة والذي يفتقد منذ عقود طويلة الممارسة السياسية، رغم استجابته الفطرية السريعة لطليعة هذه الثورة مثلما حدث مع شباب الجيش المصري في 2591. ما هو المطلوب؟ واذن.. ما هو المطلوب؟ المطلوب بوضوح في رأيي أن نعيد للشعب المصري قدرته علي المشاركة في الحوار المطلوب.. ان نعيده الي الممارسة السياسية التي غابت عنه طويلاً، ولم يكن يملك الا فطرته الكامنة في عمق الشخصية المصرية العريقة والتي تسعفها دائماً في اللحظات الفارقة لكن لا تسعفها في وضوح المنهج بالعمل السياسي لتملك بحق مصيرها وصنع قراراتها.. وحماية مصر من كل المخاطر المحيطة بها الآن بفعل تراكم طويل.. ولننظر معاً الي امرين هامين في هذا الصدد.. ما حدث لتعطيل الممارسة السياسية لدي الوعي المصري.. وما جري أيضاً من هدم وتشويه ثقافي للعقل المصري ورده إلي عصور التخلف مما أسهم ايضاً وبشدة في حجبه عن الممارسة السياسية وتعطيل دوره الآن وبلغة متطلبات هذا العصر.. الذي انطلق شباب الثورة من قلبه ولنلقي نظرة علي الأولي.. الممارسة السياسية. وفي السياسة لقد عاش المصريون الممارسة السياسية بشكل قوي مع بدايات القرن العشرين الماضي، وكان بابها الواسع لدي وعي الشعب هو النضال الوطني ضد الاحتلال، هذا الذي طرح السياسية علي مائدة الحياة اليومية لدي المواطن المصري بكل طوائفه.. وما كانت ثورة 9191 ببعيدة عن نضال سابق.. مرورا بعرابي ومصطفي كامل ومحمد فريد وتداعيات أدوارهم.. وايضاً بدايات الحياة البرلمانية في عصر اسماعيل وأياً كان تقييم مسارها فإنها مع حركة التنوير ورموزها قادت الجميع نحو حياة حزبية دعمت البعد السياسي في حياة الانسان المصري سواء بوجود حياة حزبية تعبر عن مصالح بعينها محتفظة باستقلالها عن التبعية للقصر او الاحتلال.. او احزاب تابعة بشكل او بآخر.. وقياساً علي ذلك الموقف من القضية الوطنية.. ورغم محاولة محاصرة نتائج ثورة 9191 تلك المحاصرة التي اوشكت ان تهدد وجود الحياة الحزبية الا انها ظلت قائمة وظل تواجد الحياة الحزبية مؤثراً في تواجد البعد السياسي في وعي الشارع المصري.. حتي جاءت ثورة 2591. أفول السياسة مع الصعود وانسحاقها مع الانحدار. قامت ثورة يوليو 2591 بقيادة الجيش المصري او تحديداً شباب الجيش المصري وكانت السلطة بيدهم، بعكس الشباب من طليعة ثورة 52 يناير 1102.. وواجهت ثورة يوليو مخاضاً صعباً وقوي مضادة بالداخل والخارج.. وكان ذلك من اسباب تركيزها في الانجازات الكبيرة علي التنمية والديمقراطية الاجتماعية التي يقف خلفها مبدأ العدالة الاجتماعية.. وجاء ذلك علي حساب الديمقراطية السياسية.. اي وجود البعد السياسي في حياة المواطن وشراكته في صنع القرار.. كان ذلك بحكم ملابسات كثيرة.. وللأسف برضاء قطاع كبير من الشعب الذي التف حول هذه الاهداف وقائد ثورته تبعاً لما تحقق لهم من مكاسب علي المستوي الاقتصادي والاجتماعي وعلي مستوي البناء والتنمية في ظل ذلك بدأت مأساة الحزب الواحد وما ترتب عليها من اضرار اولها استبعاد الممارسة السياسية الحقيقية من حياة المواطن لقاء وجود زائف.. انتهاء بمأساة ضرب مكاسب الثورة باختفاء قائدها عبدالناصر.. وبرغم انه قبل وفاته قد تنبه اثر نكسة 76 لتفادي مخاطر القضاء علي المكاسب نتيجة لعدم وجود ديمقراطية سياسية سواء في وجوده أو بعد غيابه.. وما اسعفه العمر ولا ضغوط حرب الاستنزاف وجاءت مرحلة الرئيس السادات ورفعت شعار التعدد الحزبي.. وسرعان ما انكشف ان البداية تحولت الي خدعة خاصة عندما بدأت قوي المسار وبوضوح وخاصة بعد انجاز حرب اكتوبر العظيمة.. ومع بداية الانفتاح بدأت منظومة جديدة تماماً تنسخ ما قبلها وتلتهم كل المكاسب الاقتصادية والتنموية التي تحققت للغالبية وترسم خريطة اجتماعية جديدة يتم تجريف الطبقة المتوسطة معها تدريجياً.. وايضاً تجريف الكثير من القيم وتخلق منظومة جديدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.. وقد عمت هذه المنظومة تماماً في العقود الثلاثة الأخيرة وتضخمت معها اكذوبة الحياة الحزبية والتعددية الحزبية حين تصاعد تحالف السلطة والثروة ليتصدر المشهد الحزبي والبرلماني تنظيم عصابي يخدم تحالف السلطة والثروة.. تحت اسم الحزب الوطني والذي قام بتدمير الحياة الحزبية بامتياز وكان اكبر تجلي لخواء الحياة الحزبية اننا امام وطن ومواطن بلا سياسة.. حكم فردي مطلق السلطة لا يحكمه دستور حقيقي.. ولكن يحكمه شيء واحد فقط.. الثروة بالداخل والتبعية بالخارج والمستفيدون في عواقبهم وبانتقاء.. يحمون المشهد الذي نجحوا تماماً في اقصاء صورة الشعب منه.. واقصاء الشعب لا تعني اساساً الا محاصرة اي فرصة لاسترداد وعيه السياسي.. اي عودة السياسة وممارستها بوعي ثانية.. وهي السلاح القادر علي تمكينه من مواجهة اعدائه، وتفسير ما يحيط به وحقيقة مطالب التغيير وبالتالي القدرة علي الفعل وفرض الايقاء الصحي للثورة علي الجميع. الحق ان من افلت مما حل بجموع الشعب هم من اختبأ من ابنائه الشباب في منعطف العصر وتسلح بلغته وفهم تحدياته، واستطاع ان يسترد ما سلب من آبائه ليفتح ثغرة للتغيير وطليعة للثورة.. اما تحقيق الثورة نفسها تطهيرا كاملاً وبناء صحيحاً فما زال ينتظر استرداد الشعب بكامله لممارسة السياسية من خلال حوار وطني يطرح باتساع الوطن وبكل اطرافه.. وفق برنامج لا يعطل ولا يوقف عجلة الاقتصاد الوطني المهددة بقدر ما يعيد اكتشاف طريقه ولتكن بداية الحوار الوطني الكبير بتنظيم لقدوم الشباب ايضاً وليكن ان لزم الأمر بداية بالابجديات. ويبقي هنا دور الثقافة وما حل بالعقل المصري والدور المطلوب في هذا الشأن دعماً للدور السابق وهو ما نعود اليه لاحقاً.