في قناعتي أننا أمام لحظة تاريخية فارقة، لا في تاريخ الثورة المصرية الوليدة وحدها وإنما تاريخنا الوطني المعاصر، لحظة اجتمعت لها من عناصر التحقق والنجاح بقدر ما يتناوشها من عناصر المناوءة والتضاد، وليس في مقدورنا إلا الرهان علي قوة دفع الثورة ويقظة الجماهير ووعي المجلس العسكري الذي ينبغي أن توضع أمامه الحقائق دون تلوين، وربما مصارحته فيما يمكن أن يكون تناقضاً بين حرصه علي الثورة وحمايتها وتردده في مواقف لايصلح معها التردد وطول أمد الحسابات وبطء القرار. إن صورة مصر بعد الثورة يمكن اختزالها في عدد من المشاهد يمكن قراءة شواهدها علي الأرض ورصد دلالاتها في المحيط العام وانعكاساتها علي مستقبل الثورة والوطن علي النحو التالي: مشهد مأزوم وإنتلجنسيا حائرة: أزمة المشهد مردها إلي عدم قدرة النخبة علي القراءة العلمية الصحيحة لحدث الثورة والتسليم بما استدعته من مستجدات ومقتضيات ومفاهيم لايصلح معها جمود قاموسنا السياسي المعتاد بضيق أفقه ومحدودية خياله وعدم قدرته علي التكيف والتأقلم والاستجابة، فبدا قادة الرأي والفكر والمجتمع المدني بمثقفيه وسياسييه وفاعليه، أو مايمكن أن يطلق عليهم "الإنتلجنسيا" في حيرة وتردد إنعكست آثارها علي قرارات المجلس العسكري الذي وجد نفسه ولأول مرة أمام تناقضات النخبة المصرية من غلو البعض وتفريط البعض وانتهازية البعض ونفعية الغالبية وغائية الآخرين، ومن أسف أن جاء الجميع علي أرضية رخوة فاجأتهم الأحداث متسارعة والتداعيات مهددة فتداعوا إلي حوار شكلاني اصطبغ بالتعجل والتلقائية وحكمته الشللية والإنتقائية والإقصاء، فنحي إلي الكم وتجاوز الكيف والتأم الداعون للثورة مع المناوئين لها مع المنافقين والعاطلين عن الرؤية السياسية مع الفاهمين والواعين والثوريين والانتهازيين دون فرز ودون تحديد لنوع المطروح والمستهدف والممكن والمأمول والحتمي والعاجل والآجل، واختلط كل شئ بكل شئ فجاءت الأمور علي نحو مفارق غير مدروس. لقد تم ومنذ البداية التعامل مع الثورة لابمنطق الثورة ومفرداتها وإنما بمنطق بيروقراطية الأمر الواقع الذي سمح بامتداد حكومة الفريق أحمد شفيق المشكلة بقرار السلطة المقالة لتمثل الثورة، وهنا وقع التناقض الذي تطلب التعديل الوزاري، ليأتي بأكثر من تناقض، مثل عدم أداء رئيس الحكومة القسم أمام المجلس العسكري الذي ارتضي الشعب أن يمثل سلطة انتقالية مرحلية تعبر عن مطالب الثورة وضماناتها، كذا احتفظت الحكومة بعدد من الوجوه الوزارية المكروهة والمصنفة ضمن الرافضين للثورة والمشككين فيها والمكرسين لممارسات النظام السابق بكل ماحمله من فساد واستبداد وفشل، ومع استمرار الأزمة عادت الجماهير لتحتمي بميدان التحرير رمزاً لاستمرار الثورة ورفضاً لمحاولات تفريغها من مضمونها ومحتواها، وكانت استجابة المجلس العسكري بتكليف عصام شرف بتشكيل حكومة جديدة إيذاناً باعتراف يعيد لمشروعية الثورة اعتبارها ويؤكد حق الجماهير في اختيار نظامها السياسي باعتبارهم حدا أصيلا من حدود معادلة السلطة والحكم. وحسناً تلقف عصام شرف الاشارة وذهب ليدشن عصر الجماهير وشرعية الثورة في ميدان التحرير، ولم يخطأ الثوار فهم الإشارات ولم يخطئوا تلقي الرسالة وحملوا حكومة الثورة علي الأعناق، وطويت واحدة من صفحات المماطلة واللجاجة ومشهداً من مشاهد الفوضي التي حاولت عناصر الثورة المضادة من فلول النظام السابق ترسيخها وتوسيع دوائرها بدءاً من إطلاق الرصاص الحي علي المتظاهرين ثم الأربعاء الدامي في موقعة البغال والحمير ومروراً باختفاء الشرطة وفتح السجون وإطلاق البلطجية والمسجلين الخطر لتهديد أمن الوطن وترويع الناس وإحداث الوقيعة بين الشعب وجيشه، وتحقيق سيناريوهات الفوضي المعدة مسبقاً لفرض التمديد والتوريث. إن التعامل مع حدث الثورة بمنطق بيروقراطية الأمر الواقع كان عنواناً علي أزمة المشهد بقدر كونه علامة علي موقف انتلجنسيا حائرة ونخبة مترددة تجلت وتضاربات مواقفها في إختيارات لايؤيدها منهج علم ولاثوابت فكر ولاسوابق سياسة، إذ الثورة فعل تراكمي يبدأ بإزاحة نظام سياسي فقد شرعيته بقيام الثورة عليه وينتهي بإعادة البناء في قطيعة معرفية مع ماكان من أسس سياسية حاكمة في النظام السابق، حيث يؤسس لشرعية جديدة وعقد إجتماعي جديد ونظرية سياسية مغايرة ومؤسسات فاعلة لها شرط الجماهيرية والقبول، من هنا فلم يكن مقبولاً تعديل بعض النصوص في دستور استنفد مبررات وجوده، وكان الأوفق مع منطق الثورة هو إعلان دستوري من المجلس العسكري في عدد محدود من المواد يؤسس لشرعية الثورة والمرحلة الإنتقالية ويفتح الباب للحريات العامة وإلغاء حالة الطوارئ واسقاط عقبات الترشيح لرئاسة الجمهورية وتحديد وتقييد صلاحيات وسلطات الرئيس شبه الالهية في الدستور القائم، ويسمح بالانتخاب بالقوائم النسبية ويؤكد علي النظام البرلماني وحرية تكوين الأحزاب وإصدار الصحف، ويدعو لجمعية تأسيسية لإعداد الدستور الدائم في مدة محددة، أما عمليات القص واللصق ستؤدي بنا إلي عيوب الانتخاب الفردي من بلطجة ونفوذ رأس المال وشراء الأصوات وعدم تمثيل جميع التيارات السياسية. إنه مشهد أزمة وتردد نخبة يؤسس لفوضي صناعة حكومية ويعيدنا إلي المربع رقم واحد علي رقعة أرضية أسباب قيام الثورة. الفوضي بالجملة والقرار بالقطاعي: إن مشهد فرم الأوراق وحرق المستندات وإتلاف الذاكرة المؤسسية لجهاز أمن الدولة واقتحام مقراته إنما هو تطور طبيعي للتراخي في التصدي الحازم لغياب الشرطة وهروبها وعدم إتخاذ إجراءات عاجلة للتحقيق في هذه المؤامرة وتداعياتها ومحاسبة صناعها والضالعين فيها وكذا سرعة الكشف عن نتائج التحقيقات في إطلاق الرصاص وقتل المتظاهرين والمجرمين بالتنفيذ والتحريض والاشتراك والتواطؤ في أحداث الأربعاء الدامي، هو ما أوصلنا إلي فوضي مؤسسية يمارسها جهاز أمن الدولة، وليس كافياً أن تأتي قرارات المجلس العسكري بمحاولة احتواء تداعيات الأحداث وإنما لابد من علاج الأسباب من جذورها، وينبغي علي النائب العام توقيف ومحاكمة رئيسي الجهاز السابق والحالي، إذ فرم المستندات وحرقها هو سيناريو ذو دلالتين لاثالث لهما، وكلاهما مهدد لأمن الوطن، فإما هي محاولة لطمس وتغييب مستندات تضع الجهاز تحت طائلة الحساب لممارسات غير قانونية وفضائح يتخوف منها وتستوجب حله وتسريح قياداته ومحاكمة رؤسائه، وفي نفس الوقت تنفذ بهذا الغباء المتعمد بعد تشكيل حكومة عصام شرف كمحاولة للإلهاء وتشتيت الجهود واستمرار سيناريو الفوضي لاستنزاف طاقات الثورة وتأخير برامج العمل والانتاج والتأسيس للإنطلاق نحو إعادة البناء والنهضة، وهو منطق تكتيكي طالما استخدمته إسرائيل في استهلاك الوقت بالمفاوضات والمماحكة وخارطة الطريق والادعاء والافتعال والكذب، إنها نظرية مرآة الكف التي حادثتكم عنها من قبل لممارسة عملية الالهاء وتشتيت الانتباه. أو هو تنفيذ لتكليفات جديدة لميليشيات العادلي- عز بما لها من روافد داخلية وامتدادات عبر الحدود، لتحقيق سيناريو الفوضي الذي يمهد لعناصر الثورة المضادة وفلول النظام الساقط، وفي الحالتين لابد من إتخاذ إجراءات حاسمة ورادعة، وإلا نكون قد ارتضينا أن تكون الفوضي بالجملة والقرار بالقطاعي، وهنا الخطر والخوف ليس علي مستقبل الثورة بل علي كيان الدولة. سلطة حارسة: لا أوليجاركية ولا عسكرتاريا: يخطئ من يتصور أنه لايمكن علاج تداعيات وآثار الأوليجاركية المستبدة إلا بتأسيس عسكرتاريا رشيدة تحمي الثورة وتؤسس لفترة إنتقالية. العسكرتاريا هي حكم العسكر وهو أشبه بماكان بعد ثورة يوليو، والأوليجاركيا هو حكم الأقلية في تحالف الثروة والسلطة أو الفساد والإستبداد كما في نظام مبارك. وربما حرص المجلس الأعلي للقوات المسلحة أن ينأي بالجيش عن ظواهر ومآخذ وتداعيات العسكرتاريا هو ما دفعه للإصرار علي تصديه للمسئولية فترة قصيرة حددها بستة أشهر يسلم بعدها السلطة لرئيس مدني منتخب، وهو موقف وطني نبيل لايمكن المزايدة عليه، ويمكن أيضاً تفهم رفض المجلس الأعلي حتي الآن لفكرة مجلس رئاسي مدني عسكري، إذ هي حالة ربما تحمل فيها الجيش أخطاء ممارسات سياسية لمن تختلف رؤاهم ومفرداتهم ومعالجاتهم وتناولهم للأمور عن منطق العسكريين والتزامهم، وهو مما لايقبله المجلس العسكري. لكن تظل المشكلة قائمة إذا بقي الوضع علي ماهوعليه، فالمقدمات المسلوقة علي عجل سوف تؤدي إلي نتائج لن تكون في صالح إقامة حياة ديمقراطية سليمة وسوف تمارس كل عمليات إعادة البناء علي عجل ودون كفاءة ونضج كاف، كما بينا من قبل، والحل؟ الحل فرض نفسه بالمصادفة الطيبة بعد تكليف حكومة شرف التي تصلح أن تضطلع بإعباء المرحلة الإنتقالية في ظل وجود مجلس عسكري يمثل السلطة الحارسة لا الحاكمة فترة لاتقل عن عام ولاتتجاوز العامين، يضطلع فيها المجلس العسكري بأعمال السيادة في شئون الدولة كما نظمها القانون ويكون حكماً بين السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهو أمر تبدو بشارات نجاحه بالقبول العام بحكومة عصام شرف وشرعيتها الثورية والدستورية "مجازاً" في ظل التقاء إرادة الجماهير وإرادة المجلس العسكري، مايرتب لهذه الحكومة الإضطلاع بمهامها بما يطمئن المجلس العسكري إلي عدم توريط الجيش فيما لايقبله أو يرضاه لصورته ومسئولياته والتزاماته. إن القبول الشعبي للحكومة وقدرتها التي ينبغي أن تتجلي في استعادة الأمن ومحاربة الفساد وإدارة عجلة الإنتاج واضطلاعها بمهامها بشفافية وحزم هي ضمانة تشجع المجلس العسكري بمد أمد فترته الانتقالية بما يكفي لإعادة البناء علي أسس علمية سليمة كما بينا، وكفالة الانتقال الآمن والسليم للسلطة، وتقينا مغبة الحلول التلفيقية والترميم وعوار الاجراءات، فلتكن فترة عنوانها: المجلس العسكري سلطة حارسة.