من منكم استمع إلي صوت الشيخ محمد عمران؟.. أظن أن من يعرف من يكون وأي موهبة يملك.. قلة وما كنت منهم للاسف.. وهذا الحديث امتداد لحديثي عن عبقرية عمار الشريعي، حيث أتوقف عند عبقرية (الشيخ محمد عمران). فمن يكون بداية؟ إنه واحد من سلالة الإبداع الشرقي الصميم حين تسقط الفواصل بين فن الإنشاد وفن الغناء وفن التلاوة ليقدم لنا سبائك من الأصوات التي لا تتكرر. وهو ما يقف علي سبيل المثال وراء تفرد عبقرية سيدة الغناء (أم كلثوم) ورموز كبيرة في عالم الغناء.. وكذلك رموز مبهرة في دنيا الإنشاد والتلاوة.. ولي مع الشيخ محمد عمران - رحمه الله - حكاية. فما كنت حتي سنوات قليلة قد استمعت إليه أو عرفت له اسما رغم أنني اتابع منذ صباي كل الاصوات المميزة في الغناء أو الإنشاد أو التلاوة.. الي أن تواري عالم الكبار في هذه الفنون وحل نوع من الجدب والافتقار إلي أي امتداد حقيقي للمجد القديم بكل رموزه، واكب ذلك فصل «تام» بين الفنون الثلاثة في الغناء والإنشاد والتلاوة ليبقي لنا فقر مدقع في كل منها علي حدة، وإن كان الغناء والموسيقي قد اتخذا مساراً يحتاج إلي نظر.. المهم.. أنني برغم وعيي بهذا ظللت أتابع البحث والترقب علي أمل ان أجد موهبة كبيرة لاني اصدق ان مصر ولادة دائماً - ولكن وحتي وقت قريب لم أجد.. حتي فوجئت ذات ليلة وفي أقل من نصف دقيقة بصوت هزني في مقدمة لبرنامج ديني.. لم أصدق للوهلة الأولي ما سمعت ولكن الصوت كان كسهم نفذ الي داخلي واستقر.. لكن لم يستقر لي قرار بعدها بحثا عن محمد عمران وأنا أسأل من يكون؟ وأين كان!؟.. لم الظهور علي استحياء في مقدمة برنامج فقط؟ لم لا يملأ الساحة ليرد الاعتبار لتاريخ الأصوات المصرية مثلما نتمسك بالنقشبندي وطوبار - كانا مازالا علي قيد الحياة - أرهفت السمع لالتقط هذا الصوت ثانية في أي محطة أو قناة.. سألت عنه من له علاقة بفنون الأداء ولا جواب. أخيراً.. زارني صديقي الفنان الشاب أحمد جمال - من مكتبة الاسكندرية - كأنما أرسلته العناية الإلهية كي يخرجني من حيرتي بسبب نصف دقيقة سمعتها من محمد عمران - وجاء ذلك الشيخ محمد عمران بما وصفت به صوته.. وأجاب أحمد عندها كأنك تتحدث عن الشيخ محمد عمران. أيكون هو؟! أتعرف شيئا عنه؟ اجاب: بل لدي تسجيلات شبه كاملة لكل ما أبدع.. ولم أخجل من أن اطلب منه أن يعجل إليّ بها وله كل الجزاء عند الله.. وبالفعل سافر وجاء لي من الاسكندرية بتسجيلاته للشيخ محمد عمران.. يا الله.. كم أرهقتني يا شيخ محمد.. ولكن ما إن بدأت بالاستماع إلي التسجيل الأول حتي اقسمت لنفسي أن البحث عنه يستحق أي عناء وكل إصرار وجلد. كان من حظي أن من شارك في الاستماع إليه داخل هذا التسجيل هو (محمد عبدالوهاب) بنفسه - كان قد استضاف الشيخ في منزله ومعه عازف الكمان الخلاّق وصديق الشيخ الفنان (عبده داغر).. كان التسجيل لقصيدة بعنوان (يا سيد الكونين).. استمعت في صمت كامل. كان رد فعلي الوحيد هو ما أشار إليه أحمد شوقي في تلك الشطرة (تولي الدمع عن قلبي الجوابا).. برغم ان محمد عبدالوهاب بكل ما عُرف عنه من اتزان وتحفُّظ كان يهلل ويكبّر علي نحو غريب وطوال اداء الشيخ، وعبد الوهاب هو من هو.. موهبة وخبرة وتذوقاً كان الشيخ يصعد بنا إلي آفاق غير منظورة. قد أتحدث عن مساحته الصوتية الواسعة وعن مهارته العجيبة في التنقل بين المقامات الشرقية صعوداً وهبوطاً بكل سهولة ويسر.. لكن الأمر كان أبعد وأعمق من ذلك.. شيء ما عجيب ساحر في اختباء أحاسيس متنوعة بل ووعي عميق بكل معني يتخلل هذه الاحاسيس بل أذهب أبعد من ذلك.. إنه يقودنا إلي حالة من الوجد الصوفي الذي يستعصي علينا عادة ان نفهمه او نتمثله. وتلك حالة لم أعاينها إلا في حالات نادرة خلال لقاء موسيقي رياض السنباطي وصوت أم كلثوم في أبيات من قصائدهما البديعة أو إنشاد الشيخ طه الفشني في بعض تجلياته وإنشاده. في قصيدة (يا أيها المختار) مثلاً. أما ما وصل اليه الشيخ في مسألة إزالة الحواجز بين فنون الاداء لتنصهر في بوتقة واحدة كي تصدر عن نبع واحد فهو خير دليل علي صدق هذا الفهم.. لما حوت تسجيلاته من تنوع واسع ما بين القصيدة دينية وصوفية أو غزلية وأغان لمشاهير المطربين، أو ابتهالات وتواشيح أو مواويل عربية أو تلاوة لسور من القرآن الكريم أو تجليات في جلسات خاصة تجمع بين هذا كله وإن ظل هناك ملمح خاص لكل منها رغم النبع الواحد. - ملاحظة أخيرة.. لا يجب النظر للأمر من ناحية تجاوز الجديد المطور للقديم أياً كان فالامر هنا مختلف ويتعلق بجوهر وجداني متأصل ويخصنا ولا مفرّ من امتداده في كل اجتهاد يجدُّ في فنوننا عامة وفنون الأداء هذه.. ومن يغفل عن ذلك فهي قلوب أحكمت عليها أقفالها بمزاعم زائفة أو ليس لها دوام إزاء هوية وجدان لا يجب التفريط فيه. وبها نواجه الآخرين باعتزاز. لقد ذاب الشيخ محمد عمران حبَّا في كل ما تركه لنا شأن كل العاشقين لدورهم.. ويظل إبداعه كغيره طريقاً مضيئا بإشراقات لنا باقية.. ويظل رغم غرابة تجاهله لفترة طويلة في منافذ الإعلام المسموع والمرئي دليلاً علي خلل وقصور ما في الوعي والبصيرة داخل عتمة من الجهالة. رحم الله الشيخ محمد عمران الذي رحل عن عالم ناقص.. الي بقاء لا يعرف الفناء ولا قسوة العتمة والنقصان. وإلي لقاء آخر مع الفنان المغربي (رشيد غلام) اسطورة للعشق شديدة الأهمية، وكان للشيخ دون أن يتدخل فضل في تعرفي علي هذا الفنان العربي كما سأوضح.