لابد أن الرئيس الفلسطيني أبو مازن يعرف قبلنا جميعاً ان القصة انتهت، وأن الآمال التي بدأت مع تحرك الرئيس الأمريكي أوباما نحو حل للصراع في المنطقة يقوم علي قيام دولة فلسطينية، واعتبار ذلك مصلحة قومية أمريكية، وإطلاق مفاوضات مباشرة تحت رعاية واشنطون لبلوغ هذا الحل خلال عام واحد.. كل هذا قد انتهي إلي لا شيء. وها هو الرئيس الأمريكي الذي أعلن في العام الماضي ضرورة الوقف الكامل للاستيطان الإسرائيلي ومارس الضغوط علي إسرائيل من اجل ذلك، ينتهي به الأمر إلي " تسول !!" موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وحكومته الفاشية علي مجرد وقف الاستيطان لثلاثة شهور، مع استثناء القدس، مقابل مجموعة من المساعدات والضمانات والامتيازات التي لم يسبق لها مثيل في أهميتها وفي خطورتها ليس فقط علي القضية الفلسطينية، بل أيضا علي التوازنات الموجودة في المنطقة والأوضاع القابلة للانفجار في أكثر من موقع . يكفي ان الجانب المعلن - حتي الآن - من الصفقة يتضمن مساعدات بقيمة 20 مليار دولار، من بينها ثلاثة مليارات قيمة 20 طائرة " إف 35 " هي الأحدث في الترسانة الأمريكية لتدخل الخدمة في الجيش الإسرائيلي قبل الأمريكي(!!)، ولتشكل مع عشرين طائرة أخري سبقت الموافقة عليها جيشاً بحد ذاته بإمكاناتها الهائلة. أما علي الجانب السياسي فيأتي الأخطر في ضمان باستخدام " الفيتو " الأمريكي لمنع أي تحرك فلسطيني أو عربي لإدانة إسرائيل أو لانتزاع قرار دولي بإقامة الدولة الفلسطينية، ومع فرض الحماية علي البرنامج النووي الإسرائيلي ومنع أي تحرك لإخضاعه للرقابة الدولية.. كل هذا من اجل تسعين يوماً يعود فيها الرئيس أبو مازن ومساعدوه للتفاوض مع نتنياهو ورجاله لكي يصلوا - تحت الرعاية الأمريكية المباركة - إلي لا شيء !! ولست هنا بصدد البحث عن أسباب ومبررات هذا " الانقلاب " الذي نقل أوباما وإدارته من موقف الوعد والوعيد لنتنياهو ليوقف الاستيطان واعتبار رفضه لذلك إضراراً بالمصالح الأمريكية نفسها،إلي هذا الموقف الذي يتدلل (!!) فيه نتنياهو وهو يتلقي الحوافز والمكافآت التشجيعية التي أذهلت بعض أركان اليمين الإسرائيلي نفسه، ثم يفرض الشروط تلو الشروط من اجل أن يتعطف (!!) علي الإدارة الأمريكية بتسعين يوماً من وقف الاستيطان ( الذي هو غير شرعي وغير قانوني من الأساس) لا أحد يعرف ماذا ستفعل الإدارة الأمريكية خلالها، ولا ماذا ستفعل بعدها، وأي معجزات علينا أن ننتظرها من مفاوضات حدد نتنياهو سقفها من البداية .. بأنه لا عودة لحدود 76 ولا حديث عن سيادة إسرائيل علي القدس الموحدة، ولا كلام عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وكل ما هو ممكن بعض التسهيلات والإجراءات التي تحقق للفلسطينيين ما يسميه " السلام الاقتصادي!!" تمهيدا ليوم يمكن أن يكون لهم بعد عشر أو عشرين سنة كيان سيكون - كما يؤكد - أقل بكثير من الدولة !! لسنا بصدد البحث عن أسباب او مبررات لهذا الانقلاب، لأن الأمر كان متوقعاً- بالنسبة لنا- من البداية . ولأن الثابت في العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية هو هذا التحالف الذي يعلو فوق خلافات الزعماء، ولأن هذا التحالف يواجه في الحقيقة أوضاعاً فلسطينية وعربية بائسة.. انقسام فلسطيني أفقد الشعب الفلسطيني المجاهد القدرة الحقيقة علي المقاومة أو علي التفاوض، وتخبط عربي لا يجد أمامه إلا وضع أوراق اللعبة في يد واشنطون، وانتظار المعجزة في زمن لا يعترف إلا بلغة القوة وحسابات المصالح !! ألف باء علم السياسة أنك عندما تذهب للتفاوض وأنت لا تملك أي بدائل أخري، فلا تنتظر شيئاً من مفاوضاتك. ولو أن نتنياهو يعلم أن فشل التفاوض يعني اشتعال الأرض من حوله بالمقاومة الفلسطينية المشروعة، وبالإجراءات العربية التي تجعله يدفع الثمن، وبالإدانة الدولية، وبالعقوبات لا المكافآت من أمريكا.. لما تهرب من استحقاقات السلام الذي يطالب به العالم أجمع. ولو أن الإدارة الأمريكية أدركت ان مصالحها في المنطقة ترتبط حقيقة بسلام عادل وشامل، لأرغمت إسرائيل علي الانصياع لشروط هذا السلام. ولو أنها أدركت أن مثل هذه الصفقة الأخيرة لمكافأة إسرائيل، سيكون ثمنها إلغاء صفقات عربية وسحب أموال عربية تدعم الدولار، ومراجعة أوضاع اقتصادية تستفيد منها أمريكا.. لكان لواشنطون حسابات أخري !! ومع ذلك كله، فإن الصفقة الأخيرة وما تكشفه من أن الرهان علي موقف أمريكي متوازن هو المستحيل بذاته، تمنح الفلسطينيين والعرب فرصة لمراجعة لابد منها لمواجهة الموقف الذي لابد من الإقرار بخطورته ليس فقط علي مستقبل القضية الفلسطينية، بل علي الأوضاع العربية وموازين القوي في المنطقة . إن استئناف التفاوض - بعد كل ما حدث - لا يعني فقط ضياع الوقت، وإنما يعني ضياع ما تبقي من ارض ومن حقوق مشروعة، وإعطاء نوع من الشرعية للاستيطان، والقبول بتهويد القدس، وانتظار المستحيل من حكومة فاشية في إسرائيل، ومن رعاية أمريكية تعطي الوعود للعرب والفلسطينيين بينما تعطي لإسرائيل السلاح والمال والفيتو والضمانات!! فليكن البديل هو الإعلان الفوري من جانب القيادة الفلسطينية عن قيام الدولة علي كامل الأراضي المحتلة عام 67 وعاصمتها القدس العربية . وليتوحد كل الفلسطينيين - بعد إسقاط كل الانقسامات - في حركة مقاومة مدنية مشروعة ضد الاحتلال . وليوضع العالم كله أمام مسئولياته بعد افتضاح إسرائيل للعالم كله كياناً عنصريا قائماً علي العدوان، ولتعد القضية إلي أصلها .. قضية ارض محتلة وشعب مقهور، وليست قضية بعض المستوطنات او الحواجز . وليكن واضحاً انه إذا لم يحدث هذا اليوم فلن يبقي شيء بعد ذلك للتفاوض عليه !! * * * يبقي جانب آخر للصفقة الأخيرة يتجاوز الحدود الفلسطينية.. فالصفقة بما تشمله من طائرات وأسلحة أمريكية لا تمثل مجرد إضافة إلي الترسانة العسكرية الإسرائيلية، ولكنها تمثل تطوراً نوعياً في تسليح إسرائيل. وبالطبع فإن طائرات " إف 35 " بإمكاناتها الجبارة لا تأتي لمواجهة الشعب الفلسطيني الأعزل، ولا حتي لمواجهة الخطر الإيراني (!!) كما تزعم إسرائيل. فالطائرات ستسلم بعد خمس سنوات، وحينها سيكون الموقف بين أمريكا وإيران قد تم حسمه بالحرب ( وهذا مستبعد ) أو باتفاق يرعي مصالح الطرفين (وهذا هو الأرجح).. فلمن توجه أسلحة إسرائيل إلا للعرب ؟ وأي رسالة ترسلها الإدارة الأمريكية بهذه الصفقة التي تزيد الخلل في موازين القوي في المنطقة ؟ وإذا كان السلام في المنطقة " مصلحة قومية " لأمريكا، كما قال الرئيس أوباما، فهل يتحقق السلام بمكافأة المعتدي ودعم المحتل وإطلاق سباق تسلح جديد تدفع شعوب المنطقة ثمنه الفادح ويجني العالم كله ثماره المريرة ؟!