في كل إنسان منا ثلاثة عقول: العقل الظاهر والعقل المميز والعقل الباطن.. أما العقل الظاهر فهو الذي ندرك به الأشياء من حولنا، والأفكار التي تطرح علينا، ويواجه المشكلات التي تواجهنا، فيختار ما يناسبنا، ويرفض مالا يتوافق معنا، ومن خصائص هذا العقل أنه يسرع باتخاذ القرارات، ثم ينقلها إلي المخ لكي يأمر الأعضاء بالتنفيذ، لكنه قد يتردد أحيانا في اتخاذ بعض القرارات، وخاصة حين تكون المشكلة المعروضة عليه صعبة أو معقدة، وفي هذه الحالة ينقلها إلي العقل المميز الذي يتمثل دوره في التحليل والموازنة، وتدبر العواقب ويستعين علي ذلك بالرجوع إلي ثقافته الخاصة، أو اللجوء إلي استشارة بعض الناصحين محاولا التوصل إلي أفضل الحلول، وهو يتميز بالكثير من التوازن وعدم الخضوع للأهواء، ولذلك يكون قراره في النهاية أقرب إلي الصواب، لكن هذا العقل لا يستطيع أن يأمر المخ مباشرة، بل عليه أن يبلغ ما توصل إليه إلي العقل الظاهر الذي يقوم بذلك، أما وظيفة العقل الباطن فتتمثل في الحجز، والتخزين، حجز الأفكار التي قد يتوصل إليها العقل المميز، ولكنه لا يجرؤ علي البوح بها أو اعلانها نتيجة البيئة المحيطة بالإنسان، والثقافة السائدة في المجتمع، وتخزين القرارات التي لا يستطيع العقل الظاهر أن يأمر بتنفيذها لعدم القدرة عليها، وهكذا تترسب وتتراكم هذه الأفكار والقرارات داخل العقل الباطن، الذي يطيب له أحيانا أن يقوم باستعراضها أثناء الصحو، وهو ما نسميه أحلام اليقظة، أو تخرج رغما عنه أثناء النوم في صورة مانشاهده من أحلام، قد يكون بعضها محبوكا، وبعضها الآخر مبعثرا، كما قد يكون بعضها مبهجا، فنصحو عليه مرتاحين وبعضها الآخر مزعجا فيتركنا في حالة كآبة طوال النهار! إذا فهمنا هذا التركيب التفصيلي للعقل الإنساني، وعناصره الثلاثة، أصبح من السهل أن ندرك الكثير من تصرفاتنا التي قد تبدو أحيانا بدون تفسير، فأنت مثلا قد تري شخصا فترتاح علي الفور إليه، وتقترب منه، وشخصا آخر تنفر بسرعة منه، والواقع ان الإنسان يختزن في عقله الباطن صور جميع الاشخاص الذين أحسنوا إليه أو اساءوا، فإذا قابل شخصا يتوافق مع صور هؤلاء الاشخاص، ثار فيه شعور الراحة أو النفور. العقل الباطن لا يفكر، ولكنه يتخيل، ويتخيل بكثرة، لماذا؟ لأنه يحتوي علي آلاف الصور التي مرت بالإنسان منذ طفولته، ولذلك فإنه يمتلك القدرة علي تركيب هذه الصور وإعادة تركيبها في مئات الاشكال، أما العقل المميز فهو الحكيم الذي يظل منتظر ما يعرضه عليه العقل الظاهر من قضايا ومشكلات لكي يدرسها جيدا ثم يصدر رأيه فيها بكل تجرد واخلاص، لكن الكثير منا- مع الأسف- لا يلجأ إليه إلا في أندر الحالات، وبعضنا يلغي دوره تماما فيظل معطلا عن العمل، ويبقي أن الغالبية من الناس لا تشغل سوي عقلها الظاهر فقط، وهذا سريع في اتخاذ قراراته، لكن هذه السرعة هي أيضا التي تعرضه دائما للوقوع في الخطأ. كاتب المقال : نائب رئيس جامعة القاهرة السابق