كان طبيعيا امام هذه المواقف ان تتخطاه الانعمات الملكية التي كانت تسبغ العطاء علي المريدين كرهت الواسطة والمحسوبية منذ الصغر، واعتز بكرامتي وكبريائي منذ الطفولة، وعندما اصبحت شابا في بداية حياتي العملية التقيت رؤساء وملوكًا وشخصيات عالمية، لم اشعر بفارق بيني وبينهم سوي الاحترام والثقة من انني لا أقل عنهم شيئا، وزادني عملي الصحفي شموخا وكبرياء.. ولم أرضخ لمسئول مهما كنت في حاجة إليه، أو كان هو يملك من أمري شيئا .. أقول رايي بكل أدب ولا أخشي في الحق لومة لائم .. تعاملت مع عمالقة ونجوم الصحافة من امثال العملاق مصطفي أمين والعظيم جلال الحمامصي والاستاذ موسي صبري والبرنس سعيد سنبل والكبار ابراهيم سعده وجلال دويدار ووجيه ابو ذكري واكتسبت منهم الكثير من الخبرة والتواضع والاخلاص لمهنة الصحافة.. شغلت الكثير من المناصب والمواقع المهمة وابليت فيها بلاء حسنا .. وتركت مناصب كبيرة لعدم ايماني وكرهي للنفاق والرياء.. لكني سعيد كل السعادة بما حققت ووصلت إليه مهما كان حجم المكاسب قليلا فقد اعطتني مهنتي المحبوبة ومعشوقتي الصحافة السعادة ومزايا ومكاسب كثيرة وصفات اعتز بها.. وواجهتني كثير من المحن والشدائد وفقد أعز ما كنت املك لكني راض بما قسم الله لي فقد حققت نجاحات كثيرة وأفراحا، وأعظم ما اعتز به حب الناس من الزملاء والاصدقاء والجيران والعائلة.. والقراء الاعزاء. شريط طويل من الذكريات مر امامي منذ الطفولة لم اكن اعرف ماذا سيكون عليه مستقبلي.. كان يمكن ان اشغل أي عمل بشرط الا يكون عملا روتينياً وظيفياً فأنا اكره القيود واعشق الحرية. المادة الثانية من مشروع الدستور والخاصة بتطبيق مبادئ الشريعة الاسلامية والتي ارتضاها الاخوة المسيحيون قبل المسلمين ذكرتني بخطواتي الاولي في حي شبرا الشعبي العريق، حيث تعلمت في هذا المكان كثيرا من القيم والعادات والتقاليد الراسخة اهمها قبول الاخر.. فغالبية ابناء هذا الحي من الاخوة الاقباط.. عشت وتعايشت معهم اجمل سنوات العمر منذ الطفولة ومرورا بمرحلة الشباب والرجولة. والدي كان معلمي الاول فقد كان قارئا جيدا للكتب والصحف والمجلات فتعلقت بهواية القراءة وكنت ازاحم والدي في قراءة الروايات والكتب الدينية والمجلات السياسية مثل روزاليوسف واصدارات اخبار اليوم.. كنت اناقش والدي فيما اقرأ من عبارات لا افهمها مثل »شاهد عيان« أو »مصدر مطلع« أو تعبير »قريب الصلة« أو »مصدر مسئول« ولماذا رفض ذكر اسمه؟! وكان والدي رحمه الله يتولي الشرح والايضاح ولم اكن اعلم انني سوف اكتب هذه المصطلحات عندما اعمل صحفيا، بل الاكثر من ذلك انني كنت اناقش والدي في مساحات الاخبار والموضوعات التي تنشر في صفحات الصحف وهل الكلام أي متن الخبر والموضوع يجب ان يكون علي قدر المساحة أم المساحة هي التي تفرض عدد الكلمات، وقد توليت مسئولية هذا العمل التنفيذي عندما كنت اقوم بعملي في اعداد صفحات معشوقتي جريدة »الاخبار«. في مدرسة عثمان بن عفان الابتدائية بحي شبرا عرفت الطريق إلي المكتبة فكانت المدرسة تضم مكتبة عامرة بالكتب المتنوعة وكان الاستاذ كامل مدرسة اللغة العربية والمشرف علي المكتبة حريصا علي ان يعلم تلاميذه حب القراءة والمطالعة. تعلقت في هذه الفترة بقراءة قصص كامل الكيلاني والقصص المترجمة وتعلمت أدب الاطلاع وكيف يقرأ وكيفية الاستعارة.. وعندما تأتي اجازة الصيف لم يكن امامي سوي ملعب كرة القدم هوايتي الثانية في فناء المدرسة، وإلي جوار ذلك كنت احب الفن وقد رشحني بعض افراد العائلة لاكون من نجوم الفن وبالفعل شاركت في بعض الافلام في ادوار ثانوية. كان الفنان العبقري توفيق الدقن الممثل الشهير يسكن في العمارة المقابلة لنا وكنت اقابله كثيرا وكان حالة مبهرة بالنسبة لنا. كما كانت الفنانة العالمية داليدا تسكن في نفس الشارع الذي نقيم فيه وكنا كثيرا ما نلعب بالكرة التي تسقط في البلكونة الخاصة بشقة الفنانة الجميلة والتي كانت تقيم معها والدتها »الخواجاية « فكان زملائي يحملونني علي اكتافهم لكي اسحب الكرة لنعاود اللعب مرةاخري وكانت والدة داليدا تكتفي بان تقول لي »انت عفريت وشقي«. وعندما كنا نلعب ضد فريق الاسد المرعب فكان الشارع الخلفي لمنزلنا والمجاور لكنيسة سانت تريزا حيث يسكن الفنان المبدع علي الكسار فكان ابنه ماجد يطالبنا بالرحيل وعدم اللعب فكنا نطلب منه مهلة نصف الساعة لاكمال المباراة.. فكان احيانا يوافق وفي مرات اخري يغرق الشارع اي الملعب بالمياه حتي لا نستطيع اللعب! كما كان عدد اخر من نجوم الفن يسكنون بالقرب من شارعنا خماراوية حيث عمارة عائلة »الحلو« الشهيرة ملوك السيرك والفنانة محاسن الحلو رحمة الله عليها وكانت من اقرب الجيران لنا هي واشقاؤها.. وفي نفس الشارع كان اقارب الفنان رشدي اباظة يسكنون معنا في نفس الشارع وتجمعنا بهم صداقة ومحبة وكان رشدي اباظة يأتي لزيارتهم فنبهر به.. وفي الشارع المجاور كان يسكن الاستاذ جلال زهرة المنتج السينمائي واشهر ريجسير في مصر.. فكان يختار بعض الاطفال وانا منهم للظهور في الافلام.. واختارني وظهرت بالفعل في عدة افلام منها »لا وقت للحب« بطولة رشدي اباظة و فاتن حمامة واتذكر انني شاركت مع عدد من الاطفال في التمثيل في الفيلم وغنيت مع الفنانة فاتن حمامة احدي اغنيات الفيلم وكانت تقول لبطل الفيلم رشدي اباظة »اوعي تقرب.. او تفوت.. وارجع تاني احسن حتموت.. ابو وش احمر زي الشطة هنا قاعد لك بالنبوت« وكانت الكلمات للعبقري صلاح جاهين وكانت الكلمات موجهة لجنود الاحتلال البريطاني اذكر أيضا انني اشتركت في عمل للتليفزيون بمناسبة الاحتفال بثورة يوليو.. كنا مجموعة من الاطفال ظهرنا مع الفنانة صباح وانشدنا معها غنوة للثورة يقول مطلعها » يا حليلة يا اولاد.. يا حليلة.. 23 يوليو الليلة.. غنوا يا اولاد.. يا حليلة«. وكان مخرج هذا العمل هو الفنان محمد سالم. كان من الممكن ان اكون فنانا أو ممثلا مشهورا فقد قطعت شوطا كبيرا في هذا الاتجاه بالظهور في عدد من الافلام والمسلسلات.. وكان من الممكن ان اخذ البطولة في عدد من الافلام.. ولكن ما جعلني ابتعد عن هذا المجال الفني انني شعرت ان هناك محسوبية... وان الواسطة والعلاقات تتحكم في العمل الفني.. علي الرغم ايضا من ان الفنان سامي العدل كان في مدرسة محمد فريد الثانوية التي تجاور مدرستنا رمسيس التجريبية كانت قد ظهرت عليه بوادر الفن علي مسرح المدرسة بل وفي طرقاتها ما كان يحرك في نفس الاتجاه للفن بعد انقطاع لكن الظروف كانت قد تغيرت واتجهت من الفن للعمل في الصحافة.. بينما اتجه الكثير من الزملاء من الصحافة إلي الفن بكل مجالاته! جائزة القمحاوي من يعرف عزت القمحاوي يجد ان شطر بيت عنترة بن شداد ينطبق عليه »يغشي الوغي ويعف عند المغنم « ذلك هو عزت القمحاوي الكاتب السياسي والقصاص والجورنالجي المحترف فقد اختار الانحياز لحركة كفاية عند تأسيسها في الوقت الذي كان يعمل فيه مديرا لتحرير اخبار الأدب التي حولها منبرا لكل الكتابات الشابة والمواهب الواعدة فتفتحت علي يديه زهور كثيرة في ساحة هذا الوطن المبدع ولولا موهبته الرفيعة لتمت الاطاحة به من العمل الصحفي تماما بسبب انحيازه السياسي المعلن، فهو يكتب في القدس العربي التي كانت ممنوعة من دخول مصر ابان عهد مبارك وهو ينشط في كفاية التي تناصب مبارك العداء. كان طبيعيا امام هذه المواقف ان تتخطاه الانعمات الملكية التي كانت تسبغ العطاء علي المريدين لذلك كان عزت القمحاوي قد صنع ثروته الخاصة قصصا يحكيها لعل من لم يوقظه المقال السياسي المباشر ان ترسخ في ذهنه حكاية من الحكايات الامثلة التي كان يضربها القمحاوي وفي روايته الاخيرة الحارس كان صاحب نبوءة اذ تنبأ بقيام حلف نهائي بين السلطة وبين حراسها من العسكر الذين فقدوا اتصالهم تماما بالواقع فاستغرقتهم مهنة حراسة السلطة حتي لم يعد هناك امل في ربطهم مرة اخري بالواقع.. ومن معرفتي بعزت القمحاوي تعرف انه قد عرض عليه منصب مدير تحرير الدوحة الثقافية وهو موقع متميز لانه يمنح صاحبه نافذة تخاطب كل المثقفين العرب علي امتداد الامة فقد ظل القمحاوي يتردد ويؤجل كأنه كان لدية مهمة يأبي ان يسافر دون ان ينجزها. وكأنما كانت تلك المهمة هي المشاركة في ثورة 25 يناير وكم من مرة قصدنا انا وهو ميدان التحرير كي نشارك الامة في غضبها وكي نستدفئ بعنفوان الشعب وكنت امام تلك المشاهد اري وجه عزت القمحاوي وهو يشرق بنور الرضا واخيرا سقط النظام وفاز عزت القمحاوي بجائزة كان يستحقها من اعوام عن ابداعه الادبي في مجال القصة القصيرة والرواية الذي عانق فيه قضايا الشعب. تهنئة خالصة للصديق عزت مرتين الاولي لانه يستحق هذه الجائزة و هو الذي طال ابعاده عن حفلات التكريم وجوائز التقدير والمرة الثانية لانه ينتمي إلي قبيلة الصحفيين وفي حصوله علي جائزة نجيب محفوظ فخر لجماعتنا مع التمنيات له بمزيد من الرفق والتوفيق. الجائزة التي تمنحها الجامعة الامريكية علي مستوي العالم العربي باسم »اديب نوبل« في ذكري ميلاده عن رواية »بيت الديب« التي سيتم ترجمتها الي اللغات الاجنبية. وكانت الجائزة قد تم منحها للشعب المصري بثورته الرائعة. اختصار الديمقراطية الغاية من التظاهرات ومن اتاحة حرية التظاهر هو افساح المجال أمام حق التعبير بجميع اشكاله وهذا الأمر يقتضي التجمع ورفع شعارات بغرض توصيل الصوت إلي المؤسسات الفاعلة في المجتمع. لكن التظاهر في الفترة الأخيرة توسع في استخدام هذا الحق توسعا افقده الغاية منه فلم يعد المطلوب هو اعلان الرأي دائما أصبح المطلوب هو تغيير السياسات تنفيذا بإرادة الكتلة التي تتظاهر. ونظرا لحالة التلاطم السياسي وتعدد البؤر والفعاليات السياسية فإن محاولة التغيير بالقوة والتي تتمثل في قطع الطرق ومحاولة اقتحام مؤسسات الدولة حول المشهد السياسي المصري إلي شكل من أشكال الرقص الدموي، ففي كل صدام تسيل دماء وتفقأ عيون وتقطع رقاب بشكل افقد التجربة الديمقراطية التي تمارس لأول مرة في مصر معناها وحولها إلي تجربة سلبية، فراكم الكراهية في نفوس قطاعات واسعة من الرأي العام المصري التي اختصرت الديمقراطية في كل تلك المشاهد العبثية فأصبحت كارهة لها. كلمات ومعاني الضجة والحراك حول عملية الاستفتاء علي مشروع الدستور لا ينبغي ان تتحول إلي غزوة أو معركة يخرج منها منتصر ومهزوم أو فائز وخاسر.. فالدستور الذي سنستفتي عليه بعد غد ينبغي ان يحتوي الجميع. ظللنا لفترة طويلة نبحث عن »صورة مصر« الحقيقية والآن نراها لأول مرة في داخلنا دون وصاية أو مجال للمزايدة علي عدسات، مهزوزة وغير حيادية.. مصر كما نراها الآن نتاج حقيقي لمحاولة تفاعل مع مناخ الاصلاح السياسي والاقتصادي الذي اوجدته ثورة 52 يناير . ليس لدينا ترف اهدار الوقت وكل من يحاول تأجيل الحسم السياسي في مصر سوف يجعل نفسه عرضة للمساءلة أمام ثورة اشتعلت ولاتزال تبحث عن مسارها التاريخي.