إن للبعد الإيماني في مجالات الحياة أكبر الأثر ،لأنه يدفع أصحابه أن يصروا في أعمالهم علي الإخلاص، ويجعلهم يبذلون أقصي ما في الوسع الإنساني لتحقيق الهدف الذي يريدون تحقيقه ويجدد لهم جانب الحق فلا يحيدون عنه. بل إن للبعد الإيماني الفضل في بذل الإنسان المؤمن أغلي ما يمتلك وهي نفسه التي بين جنبيه في سبيل عقيدته وحماية أمنه والدفاع عن الدين والأرض والعرض. وإذا نظرنا إلي غزوات الرسول صلي الله عليه وسلم لوجدنا إلي أي مدي كان للبعد الإيماني أثره الفاعل حين تغلب فئة مؤمنة قليلة فئة كافرة كثيرة وكم تحققت خوارق العادات وأعظم الانتصارات. وقد يقول قائل: إن هذه الخوارق إنما كانت تحدث في عصر الوحي وعهد النبوة، وأين نحن من عصر الوحي وعهد النبوة؟ وأقول لقد شاء رب العزة سبحانه وتعالي أن يحدث مثل هذا أو قريباً منه في عصرنا الحاضر، وذلك في موقعة العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر. تلك الموقعة التي تجلي فيها البعد الإيماني بأسمي معانيه، وظهر تجاوب وجدان قواتنا المسلحة لنداء الحق الذي وجهه إليهم الإمام العارف بالله شيخ الأزهر الأسبق فضيلة الدكتور عبدالحليم محمود - رحمه الله رحمة واسعة - لقد وقف معلناً من فوق منبر الأزهر الدعوة إلي الجهاد منادياً العالم العربي والإسلامي حكاماً ومحكومين أمماً وشعوباً، أفراداً وجماعات. وأعلن لهم أن حرب العاشر من رمضان هي جهاد في سبيل الله، من مات فيها فهو شهيد ومن نكص علي عقبه مات علي شعبة من شعب النفاق. وغداة أعلن الإمام الأكبر هذا النداء الصادق والصادر من قلب صادق تجاوبت معه كل الضمائر والقلوب، ونفروا خفافاً وثقالاً ودخل إمام المسلمين آنئذ المعركة بإخوانه وأبنائه من الدعاة ليبصّروا الجيوش وليرفعوا من الروح المعنوية، وكان لقاء العلماء بإمامهم الجليل العارف بالله مع القوات المسلحة لقاء يحمل كل خصائص النصر، وكل سمات البعد الإيماني الذي أطلعهم علي مكانهم من الجنة ومنزلتهم عند رب العالمين سبحانه وتعالي، لدرجة أنه لما قيل للقوات المسلحة: أنتم في معركة وجهاد والفطر رخصة لكم وعون لكم في النصر علي هؤلاء الأعداء، قال قائلهم يومها: »لا أريد أن أفطر إلا في الجنة« نعم إن التعبئة الإيمانية والروحية، وإن عظمة الإمام والداعية وإن تأثير الداعية والإمام المخلص الصادق لابد أن تكون نتيجته علي هذا النحو. بل إن إمام المسلمين وشيخ الأزهر الأسبق العارف بالله الإمام عبدالحليم محمود حمل البشري بالنصر للقائد قبل المعركة، وأراه أن العبور سيتم لأنه رأي رسول الله صلي الله عليه وسلم في الرؤيا يعبر ومن خلفه قواتنا، فأيقن بهذا لأن رؤيا الرسول صلي الله عليه وسلم حق، لأنه صلي الله عليه وسلم قال: »من رآني فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي«. وتحقق العبور وكان للبعد الإيماني جلاله يومئذ حيث كان الشعار الذي رددته قواتنا »الله أكبر« إنه شعار الإسلام الحق ،ترتفع صيحة الحق به مع كل أذان وفي كل صلاة، إعلاناً أن الله سبحانه وتعالي أكبر من كل كبير وأكبر من كل قوي وأكبر من كل شيء في الوجود، فمن لاذ به لاذ بركن عظيم، وحصن حصين ونصر مبين. ولقد حدثت بعض خوارق العادات في هذه الموقعة العظيمة عندما فجر الله في الأرض عيون الماء الصافية بالقرب من عيون موسي، عندما احتاج الجيش إلي الماء. وحدثت بعض الخوارق عندما عبرت القوات معتمدة علي الله وحده، معلنة بلسانها وقلبها: »الله أكبر« وعندما حاول الأعداء أن يدكوا بعض الحصون التي كان بها بعض القوات والقيادات فلم يفلحوا. وتحطمت أسطورة الجيش الذي زعم أنه لا يقهر، وحقق الله النصر لقواتنا، واستحقت هذه الموقعة أن تتبوأ مكانها بين مواقع التاريخ الإسلامي التي تحمل البطولات وتسجل الانتصارات للأجيال القادمة ولشباب الأمة حتي يقفوا علي ما قدمه سلفهم من جهاد عظيم وتضحية نادرة، ونصر وفتح مبين. لقد أكدت موقعة العبور أن الله تعالي ينصر عباده المؤمنين ،عندما يلجأون إليه، ويأخذون في الأسباب ويأخذون بأسباب النصر، وينصرون تعاليمه »إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم«. وقد تحقق النصر لنا في هذه الموقعة عندما التجأنا إلي الله تعالي، وأخذنا في الأسباب وقدمت قواتنا المسلحة بأبطالها وقياداتها أقصي ما في الوسع الإنساني وقالوا: »الله أكبر« بقلوبهم فجاء النصر من عند الله وكان التأييد. وإن واجبنا هو أن نأخذ من الماضي العبرة ومن الحاضر أهمية الاستعداد للمستقبل، وأن نستجيب لأمر الله سبحانه الذي أمر بالوحدة والاعتصام بحبله »واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا« والذي أمر بإعداد القوة »وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون«. وإن واجب شباب الأمة أن يعد نفسه للمستقبل حتي يستطيع أن يواجه التحديات، وعلي الشباب أن يحرص علي التفوق العلمي وأن يكوّن نفسه ويتنافس في التفوق والتقدم، لأن أمتنا تواجه قوي كبيرة وتواجه تحديات لا تقع تحت حصر ولا مكان في الحياة المعاصرة لغير المتقدمين علمياً وتكنولوجياً ولابد قبل كل هذا من الإعداد الروحي والديني والأخلاقي. وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا ولابد من التمسك بالقيم والمبادئ السامية والأخلاق الدينية وتوثيق الصلة بالله سبحانه وتعالي ،فمن أكبر دروس موقعة العبور قيمة البعد الإيماني الذي تحقق معه النصر والفتح المبين، وبدونه لا تكفي الآلة العسكرية وحدها. ولنكن علي يقين أن المعية أخوف علي الجند من أعدائم فعلينا أن نجنب أنفسنا ومجتمعاتنا المعاصي، فهي سبب إهلاك الأمم السابقة وبما تكسب أيدي الناس من المعاصي يظهر الفساد في الأرض كما قال الله سبحانه وتعالي: »ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون«. وحين نرجع إلي الله ونتوب إليه سيكشف الغمة عن الأمة، لأنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولا يكشف إلا بتوبة. وهكذا التقي في معركة العبور البعد الإيماني مع الأخذ في الأسباب، وإعداد العدة التي أمر الله سبحانه وتعالي بها. وتحقق النصر الذي وعد الله تعالي به »إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم«. ولنلق نظرة علي وجوب حماية الأوطان والدعوة إلي ذلك كما أمر الإسلام.. كاتب المقال رئيس جامعة الازهر السابق، عضو مجمع البحوث الاسلامية