للذين تحملوا البأساء من شعبي وأسروا في سبات الليل والبيداء ولم يصلوا فباتوا قاب قوس من لظاه لاتيأسوا.. قد أوشك الدرب الطويل علي الوصول إلي النهار هكذا جاءت كلمات الشاعر الجميل حسين ثابت في ديوانه الأخير "ماتيسر من بكاء"، وهو يبشر المعذبين في الأرض من شعبنا الطيب الذي أسري في غياهب الليل وغيابات الطريق وبيدائه واكتوي بلظي نيران الوطن القاسية ملامحه، العابثة ظروفه،الخائبة نخبته، المتواطئ إعلامه، الحالك ليله، ماجعلهم يتوهون في الدنيا يتلمسون قرب انبلاج الفجر ونهاية درب المعاناة الطويل. حسين ثابت شاعر يملك أدواته ويمتطي جواد الشعر في فحولة القادر وتفرد المبدع وبلاغة الكاتب ورؤية العارف وتجليات السالكين، ذلك رغم أنه أستاذ مساعد للتكنولوجيا الحيوية بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، لكن وكما يبدو فالمسافة ليست ببعيد مابين التكنولوجيا والفن، فكلاهما يستهدف كشف الغمة وإغاثة الأمة التي طال ليلها حتي بعد الثورة وباتت أحوالها أشبه ماتكون بمسلسلات التليفزيون المصري في الركاكة والتطويل والتكرار والملل. ويبدو أن مابين مسلسلات الميديا والسياسة في بلادنا خيط رفيع، أو هكذا بدا لي حين نحيت ديوان "ماتيسر من بكاء" جانباً لأتابع المؤتمر الصحفي للجبهة الوطنية السبت الماضي، ذلك أن أعضاء الجبهة من السياسيين والكتاب والنخبة الاعلامية بدوا في مناشداتهم للدكتور مرسي، أن يلتزم بالعهود التي قطعها معهم قبل إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية، كما لو كانوا أبطال مسلسل تليفزيوني من غير المحترفين الذين يتحكم فيهم مخرج مجهول خرج بهم من تعقيدات التراجيديا وأجوائها إلي الكوميديا السوداء فبدا المشهد مثيراً للضحك وأيضاً إلي ماتيسر من بكاء. ذلك لأن الجبهة الوطنية من حيث أرادت نصرة الثورة فقد خزلت الوطن حيث اصطفت في خندق لاتمثل الثورة لقياداته إلا تكئة في سبيل مشروعه الأممي التوسعي المعادي للدولة القومية بالأساس، والمفارقة أن شخصيات مثل سيف الدين عبد الفتاح وعبدالجليل مصطفي وحمدي قنديل وسكينة فؤاد ووائل قنديل رغم تواريخهم الحافلة بالوطنية والخبرة بدوا حسني النية حد الحمق والغفلة إذ يطلبون من الدكتور مرسي وجماعته المستحيل، ولايملون تكرار الخطأ ولايتعلمون من سابق تجاربهم وخبراتهم مع تيار الاسلام السياسي علي مدي تاريخ الثورة وتعرج مساراتها واحباطاتها بسبب الإخوان والادعاءات والأكاذيب والصفقات والانتهازية وخزلان الثورة. بدا المشهد عبثياً فيه من السذاجة والهطل أكثر مما فيه من المعقولية والسياسة. لقد رأيت ذلك المشهد عشرات المرات وكل مرة يضحك تيار الإسلام السياسي علي القوي الوطنية ويخادعهم ويوظفهم لتحقيق أجندته ومصالحه ويخرجون هم من "مولد بلا حمص" ليعيدوا الكرة كمن أدمن المسلسلات التليفزيونية الباهتة الساذجة. لقد رأيتهم قبل ذلك يتحلقون حول الدكتور مرسي وهو يعلن دعمهم له باعتباره مرشح الثورة وأخذتني عبرات ماتيسر من بكاء علي أرواح شهداء الثورة في محمد محمود والبالون وماسبيرو ومجلس الوزراء ومن هتك عرضهن من حرائر مصر بسبب من باعوا الثورة وتآمروا مع المجلس العسكري عليها، وسرقوا طموحات الشعب وأحلام الجماهير. ورأيت مرات القوي الوطنية وأعضاء من الجبهة يأسون لمواقف الإخوان من الثورة ويعددون سوءات مواقفهم من الثوار، لكن فيما يبدوا أنهم لايملكون القدرة علي رؤية مايراه الناس من محاولات النظام الجديد القديم، "نظام مبارك - المرشد" من الاعتداء علي الأزهر والقضاء والصحافة والإعلام والجيش حتي لكأننا إزاء عملية ممنهجة للتطهير العرقي السياسي لكل ماهو مدني ووطني وغير إخواني، كل هذا لاتراه الجبهة الوطنية في مسلسلاتها الرمضانية غير المسلية. ولما أصابني الملل من مسلسل الجبهة الوطنية وندائها لرئيس الجمهورية أن يتكرم ويلبي أمنيات الأمة التي يقولون أنهم ضميرها، أحلت المؤشر إلي قناة أخري حيث أبطال حقيقيين لايمثلون إلا أنفسهم ولايدعون غير ذلك ورغمها هم ضمير الوطن الذي لايزال يعيش الغربة وألم الفقد وعذابات المخاتلة والخديعة وخيبة الرجاء. كان المسلسل "خرم إبرة" لكاتبه المدهش "حسان دهشان" ومخرجه الرائع "إبراهيم فخر" وكل أبطاله من لحم مصر الحي الذين لايزالون يكتوون بنار الفقر والظلم الاجتماعي والتهميش، السائرين في الدروب دونما هدف إلا الستر ولقمة العيش بالاحترام والكرامة، فضلت أن أغادر النخبة الغافلة ونجوم الجبهة إلي مصر الحقيقية وناسها الذين لايعرفونهم، إلي سعيد البرنس "حمادة" وعواطف واسماعيل ورجب وعزة وسلامة وعماد انتخة وعبدالله وعنايات والاسطي فرغلي وسلامة وغيرهم ممن يتحايلون علي الدنيا والأيام ليمروا إلي الحياة حتي ولو من "خرم إبرة"، كل منهم له قصته ومعاناته وحلمه وطموحه ورغمها ليس فيهم كل مانراه في النخبة من استبداد وأنانية، نعم فيهم أخطاء هم مدفوعون إليها بحكم الحاجة لكن فيهم سمات "ولاد البلد" الجدعنة والأثرة والتضامن والتكاتف، يتدفأون بالتوحد والاقتراب وحتي بالمناوشات والعراك أحياناً، لايغادرون ضيق الحارة إلي رحابة الوطن، فقد ضل طريقه إليهم وغادرهم إلي محطة ربما غاب فيها طويلا مالم تنتبه النخبة وتراجع مواقفها الجبهة ويذرف الجميع علي ما آلت إليه أحوالنا " ماتيسر من بكاء" ليغسلوا أنفسهم في محراب وطن يتطهر لينهض من جديد عله يمر للعدل والتقدم حتي ولو من خرم إبرة. "الله يجازيك ياحسين، قلبت علينا المواجع".