محمد وجدى قنديل هل كان القدر يتنبأ برحيل اقوي رجال المخابرات العامة المصرية في ذات الوقت الذي يحتفل فيه الجهاز العتيد بمرور 75 عاما علي انشائه وقيامه بمهامه الخطيرة؟ وهل كان يخبيء مصادفة وفاة رجل الاسرار الذي وضع اساس تطوير المخابرات العامة علي مدي 81 عاما في هذا التوقيت وبتلك المصادفة بعد ان ادي دوره في صمت وبعدما انتهي من بناء أقوي جهاز مخابرات في المنطقة؟. هكذا شاءت ارادة الله في رحيل عمر سليمان رجل الاسرار في توقيت مرور 75 عاما علي قيام جهاز المخابرات العامة وانشائه بقرار من الرئيس جمال عبدالناصر لمواجهة المخاطر التي تواجه الامن القومي المصري.. بعدما تكشفت قضية لافون.. او فضيحة لافون التي قام بها جهاز الموساد في ذلك الوقت بتدبير تفجيرات المنشآت الاجنبية في القاهرة والاسكندرية للاساءة للعلاقات المصرية الامريكية بعد فترة قصيرة من قيام ثورة يوليو وايقن عبدالناصر ضرورة قيام هذا الجهاز لكي يكتشف مثل هذه المؤامرات التي تدبرها اسرائيل والقوي الخارجية التي تحاول التجسس واختراق الامن والتسلل الي الداخل من خلال شبكاتها التي تعمل في الخفاء ضد مصر. وكان اللواء عمر محمود سليمان نموذجا متميزا لرجل المخابرات وكان رجل الاسرار طوال هذه الفترة 81 عاما وكان يعمل في صمت ويتولي مسئولية حماية أمن مصر القومي من خلال ذلك الجهاز الذي يقوم رجاله بأصعب المهام واخطرها وراء حاجز السرية والتفاني في اداء الواجب.. وقد ترك عمر سليمان بصماته علي تطوير الجهاز وزيادة قدراته وبما تتطلبه ظروف العصر والمهام الملقاة عليه، بحيث انهم يعتبرون الرجل واحدا من اخطر اربعة رؤساء مخابرات في المنطقة وقبل جهاز الموساد الاسرائيلي.. وكان الرجل يؤثر العمل في صمت ويبتعد عن الاضواء رغم اهمية المسئولية الملقاه عليه وعلي رجاله ومعاونيه ولذلك لم يدخل في صراعات سياسية مع رجال النظام السابق وظل بعيدا عن المتغيرات التي تحدث في الداخل وان كان يعلم بكل اسرارها وظل هدفه الاساسي هو حماية الامن القومي من محاولات الاختراق والتجسس وجمع المعلومات عن نشاط اجهزة المخابرات العالمية في المنطقة وكشف عملياتها السرية ومخططاتها الخفية التي تسعي للوصول الي اختراق الداخل بكل الوسائل. وقد تدرج عمر سليمان في نشاط المخابرات الحربية وتولي قيادتها لحماية امن القوات المسلحة لعدة سنوات، وعندما انتقل الي رئاسة جهاز المخابرات العامة المصرية كانت لديه رؤية شاملة لمهمة المخابرات وجهاز الامن القومي بحيث وضع الاساس لعملية التطوير الصعبة والخطيرة واستعان بأحدث النظم والامكانيات لكي يستطيع الجهاز مواجهة التحديات في مواجهة الاجهزة المخابراتية العالمية التي تموج بها المنطقة وتسعي لتنفيذ مخططاتها السرية وتمكن بفضل مهاراته وقدراته ان يتوصل اليها ويكشف اهدافها السياسية والعسكرية ولذلك تفوقت المخابرات العامة المصرية علي جهاز الموساد الذي كان يعتبر من اخطر الاجهزة في المنطقة ولكن محاولات التجسس التي كان يحاول القيام بها كان يتم كشفها واحباطها وكان تركيز عمر سليمان علي التحركات الجارية في الخارج والتي تمس امن مصر القومي. وكانت تقاريره الاخيرة قبل سقوط النظام تحذر من خطورة الوضع الداخلي ورغم ان المخابرات العامة ليست مسئولة عن الداخل ولكن يبدو انها لم تأخذ الاهتمام الكافي من القيادة السياسية وقتها. ورغم ان عمر سليمان كان رجل الاسرار الذي يعرف الكثير وظل حريصا علي ذلك علي مدي ثمانية عشر عاما إلا أنه وجد نفسه داخل دائرة الضوء في السنوات الاخيرة عندما تولي مسئولية ملفات مهمة وكان اخطرها الملف الإسرائيلي.. وايضا ملف المصالحة بين الفصائل الفلسطينية فتح وحماس واكتسب عمر سليمان اهمية خاصة عندما أسند اليه في السنوات الاخيرة الاشراف علي ملف العلاقات المصرية الامريكية الذي يحتاج الي خبرة خاصة وعلاقات مع جميع المسئولين الامريكيين وقام برحلات سرية في مهام خاصة الي واشنطن لمناقشة الامور الحساسة التي تمس العلاقات.. وكذلك رحلاته واتصالاته مع القادة الاسرائيليين لتقريب وجهات النظر والمحافظة علي العلاقات في اطار معاهدة السلام وكان الرجل صلبا في مواقفه فيما يمس مصلحة مصر ولذلك اكتسب احترام القادة الاسرائيليين وتقديرهم لتلك المواقف.. وبشهادة دوائر مخابراتية عالمية ومنها جهاز ال سي آي ايه وبشهادة الذين عملوا معه فقد كان يحرص علي اقامة اتصالات مع تلك الاجهزة لكي يعرف اتجاهاتها وما يجري في الخفاء وكانت المخابرات المركزية الامريكية تنظر اليه باعتباره »رقما صعبا« في الامن القومي العربي بما لديه من الاسرار.. وفي السنوات الاخيرة تردد اسمه نائبا لرئيس الجمهورية لكي يقوم باصلاح الاحوال المتردية ولكنه كان يواجه اعتراضا من جمال مبارك بالذات وكان يري ان ذلك يقطع عليه طريق التوريث وكانت سوزان مبارك من جانبها تري في تولي عمر سليمان لمنصب نائب الرئيس خطرا علي مستقبل ابنها جمال وطموحه الي التوريث.. ولم يكن عمر سليمان يهتم بذلك او يسعي لهذا المنصب ولا يريد ان ينشغل عن مهمته الاصلية ودوره الذي يقوم به من خلال منصب رئيس المخابرات العامة. ولذلك كانت مفاجأة له عندما عرض الرئيس السابق مبارك عليه منصب نائب الرئيس بعد تفاقم الاحداث في ثورة يناير ولم يستطع الاعتذار لمحاولة انقاذ البلد من الخطر الداهم وتولي المسئولية ومضي يبذل محاولاته الاخيرة وفتح حوارا في مكتبه مع قيادات الشباب والقوي الحزبية لمحاولة احتواء الازمة الخطيرة والتوصل الي المخرج ولكن الوقت كان قد فات لايجاد حلول مقبولة من جميع الاطراف.. وسوف يذكر التاريخ له الجهد الذي بذله خلال تلك الفترة الحرجة.. ولكنه وجد ان الفرصة لم تعد متوافرة لاحتواء الغضب الشعب والثورة العارمة وقرر مواجهة الرئيس السابق بضرورة التنحي عن الحكم حتي يقي الوضع الداخلي من حريق مدمر.. وحدث ما حدث!. لقد عاش اللواء عمر سليمان رجل الاسرار في الظل كرئيس لجهاز المخابرات العامة ولكنه وجد نفسه في دائرة الضوء في اطار ادائه الامين لمسئولياته الخارجية والداخلية والمخابراتية.. وربما لا يعرف الكثيرون ما يعرفه عمر سليمان فقد كان يتمتع بذاكرة قوية ولكنه لم يكن يبوح لاحد بما يعرفه من اسرار.. وكان يرفض الحديث عن عمله ودوره وكان يعتبر ذلك جزءا من أمانة المسئولية!.