أردت منذ فترة ممارسة بعض القراءة النقدية لسلوك وخطاب رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان. وعلي الرغم انني تناولت الرجل عبوراً في بعض المقالات وقت زيارته (التاريخية) للقاهرة بعد الثورة، إلا أن نزوعي للتعرض إليه أو للنموذج التركي إزداد يوما وراء يوم بسبب شيوع وذيوع بضعة أساطير عن ذلك النموذج التركي السياسي / الاقتصادي باعتباره مثلاً يحتذي، وهو ما صاحبه جيشان عاطفي فيه حنين إلي الماضي، وحديث عن الخلافة العثمانية. وراكمت يوماً وراء يوم رغبة في مناقشة ذلك الملف، وخصوصا مع التدخل العلني المتواصل من جانب أردوغان بك في الشأن المصري، طارحاً نفسه بوصفه المخلص (بفتح الخاء) المتمنطق بالشجاعة والقوة كبديل عما تظهره مصر من طراوة ولين، وقامت أنقرة وبعض دوائر إقليمية ودولية أخري بتسويق تلك الصورة الزائفة التي وطدها أردوغان بك بأداء مسرحي مبالغ فيه Over-Acting بدا مقنعا لجمهور الترسو السياسي في منطقة الشرق الأوسط. ومنعتني شواغلي، واكتظاظ أجندة كتابتي بموضوعات ملحة عديدة، عن التعرض لأردوغان بك، فضلاً عن حديث متواصل لعدد كبير من نجوم اللحظة في مصر عن علاقة وثيقة تربط الرجل بالإدارة الجديدة للبلاد، وتجعل التعرض له أمرا غير لائق أو مقبول ومن ثم حلقت بعيدا مجاوبا نداهة عشرات من الملفات والقضايا الأخري إلي أن هبطت يوم السبت الفائت هبوطا اضطراريا، وقررت تناول سيرة رجب طيب أردوغان بعدما شجعتني عبارة وردت في خطاب الرئيس مرسي يوم التنصيب في جامعة القاهرة، وهي تلك التي أظهر فيها حرصه البالغ علي مقتضيات الأمن القومي، مؤكدا أن (مصر لن تتدخل في شئون أحد ولن تسمح لأحد بالتدخل في شئونها). ولما كان أردوغان واحدا من أكثر الذين تدخلوا مؤخرا في الشأن المصري، فإن مجموعة من العناصر تتعلق بصدقية الأسباب التي يتشح بها في تدخله، أو حتي مدي موثوقية ما يسوقه عن النموذج السياسي الاقتصادي التركي جعلتني أقرر المضي قدما في طرح المجموعة التالية من النقاط: أولا: يوغل أردوغان ويغالي حديثاً خلاباً عن الديمقراطية ومعاداة الاستبداد، ويوجه إلينا بعض سهام النقد من علي أرضية ديمقراطيته فيما هو أحد رموز اختراق القواعد الديمقراطية وتزوير إرادة الشعب، إذ أن رئيس الوزراء التركي يهندس الآن بعض التعديلات الدستورية بواسطة ترزية القوانين الأتراك لزيادة وتوسيع صلاحيات منصب رئيس الجمهورية حتي ينتقل ليشغل ذلك المقعد عقب انقضاء فترة رئاسته للحكومة، في تحايل فادح وفاضح علي تطبيق الديمقراطية الحقيقية، وفي تكرار واستنساخ لنموذج: (بوتين ميدفيديف) في روسيا، إذ سيتبادل أردوغان بك مع عبدالله جول مقعدي رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة مثلما يفعل فلاديمير بوتين وديمتري ميدفيديف في أحد الألعاب التسلطية المقرفة التي يشهدها العالم اليوم والتي يقوم فيها بوتين بتوسيع صلاحيات منصب رئيس الحكومة أو منصب رئيس الحكومة قبل أن يتولاه، وبما يؤدي في نهاية المطاف إلي تأييد السلطة وتداولها بين شخصين فقط، وخصوصا مع تناوب رئاسة الحزب الحاكم الذي تحول في الدولتين إلي ما يشبه الحزب الواحد وحوله بعض أحزاب هامشية (حزب روسياالمتحدة في موسكو) و(حزب التنمية والعدالة في أنقرة). ثانيا: نعرف أن أردوغان بك ارتبط بعدد من الرموز الاقتصاديين المصريين قبل الثورة وبعدها من رشيد محمد رشيد إلي خيرت الشاطر، ومن ثم فإن عملية تسويق نموذجه الاقتصادي كانت سائرة دائرة علي قدم وساق في الحالين، ومبررات حماس القائد التركي الملتهب في زرزرته علينا، واندفاعه كبارودة محمصة كيما يلعب دوراً قائداً في هذه المنطقة ويتدخل في كل شيء يتعلق بالشأن المصري، (بالذات مصر أكبر أسواق الشرق الأوسط وصاحبة أرخص عمالة وأجزل تسهيلات استثمارية وأكبر فرص وأفضل موقع)، والأمر هنا لا يتعلق فحسب بمصالح الدولة التركية، وإنما بمصالح البك شخصياً، فأردوغان هو أنموذج كلاسيكي لزواج المال بالسلطة فهو صاحب شركات، وأفراد عائلته الذين يرصعون المشهد الإقتصادي العام في تركيا يمتلكون مليارات الدولارات، ورأينا علي مدار السنوات الماضية تحقيقات كثيرة حكومية وبرلمانية في ثروة أردوغان، ونشاطات زوج ابنته بيرات البيرك المسنودة من الحكومة، بالإضافة طبعاً إلي ملف شركة كيلر هولدنج الذي يعرفه أردوغان جيداً (وقد توسعت في الإنشاءات والسياحة والطاقة وزاد نشاطها 051٪ منذ صار الرجل رئيساً للوزراء) ولكن الأغلبية البرلمانية كانت له، ومن يملك الأغلبية يستطيع التغطية علي الفساد.. ولا نملك من الأدوات ما يجعلنا نعلم إذا كان حماس أردوغان للهيمنة علي مصر عبر التدخل خالصا لوجه مصالح الشعوب، أم أنه لخدمة نشاطاته الشخصية (أو مؤسسات الواجهة التي يعمل فيها أقاربه).. وهناك أمر آخر يتعلق ببنية الاقتصاد التركي والذي يعتبره البعض نموذجاً يريدون تطبيقه في مصر، وقد دار بيني والدكتور السيد البدوي منذ شهور حديث عن ذلك الموضوع، فقال لي حرفيا: »إن الاقتصاد التركي سوف يتعرض إلي كارثة خلال فترة وجيزة، فحجم الإقتراض لديهم ضخم جدا، والدين يبلغ 003 مليار دولار، وخدمته تساوي 24٪، ومن ثم فإن تجربة تركيا تحمل مخاطراً كبيرة جداً، علي الاقتصاد، وما يمكن أن تفضي به في اطار الأزمة المالية العالمية هو كارثة«. ثالثا: وضمن زيف صورة (الأردوغانية) التي يروج لها البعض كطريق إلي التتريك، والتي يندفع أردوغان بك إلي التدخل في الشأن المصري لغرسها وتوطيدها، تظاهر الرجل طوال الوقت بالاشتباك مع إسرائيل فيما ساقيه وسيقان جنرالاته (الذين باتوا أدوات طيعة في يده بعد اقصائهم عن مراكز توجيه الحكم في تركيا) تعانق سيقان الجنرالات الإسرائيليين في تحالف لا ينفصم، ولم يتح للرأي العام المصري في مستوياته الدنيا التعرف إلي حقائق التحالف الاستراتيجي التركي الإسرائيلي وأغراضه، ونوع التدريبات التي تجمع جيشي البلدين ولمن توجه، وما هو قدر استفادة تركيا من تكنولوجيا صناعة الطائرات بدون طيار الإسرائيلية وما الذي تقدمه أنقرة إلي تل أبيب في مقابل ذلك، فضلا عما يتردد عن استخدام إسرائيل للمطارات التركية في حالة القيام بمجهود ميداني في المنطقة بما يشمل توجيه ضربة إلي هذا البلد أو ذاك، ثم ان أردوغان بك الذي »يتنحرر« ازاءنا أحمر الوجه غاضبا باستمرار، ومتظاهرا بالتضاغط مع الولاياتالمتحدة هو أحد الخدام المطيعين لواشنطن، مقدمي القرابين لها حتي ترضي، ومطلقا البخور تبركا وتضرعا، وهو الذي فرش بساطا أحمر لأمريكا علي أرض بلاده لتستكمل منظومة شبكة درعها الواقي من الصواريخ التي أقامتها علي أراضي كل الدول (التابعة) التي تسير في ركبها، ثم ان أردوغان بك المتزرزر المنتفض باستمرار ليصور نفسه زعيما وطنيا متعنترا ومستقلا، هو جزء من منظومة حلف الناتو يقدم أراضيه ومطاراته (تشهد قاعدة إنجرليك علي ذلك) في خدمة توجهات الحلف. رابعا: وضمن هيجان أردوغان بك وتدخله مؤخرا في الشأن المصري، جاءت مخاطبته للرئيس الأمريكي كيما يتدخل للاسراع بإعلان نتيجة الانتخابات المصرية، لا بل ورددت بعض وسائل الإعلام أن أسبابه هي ضرورة فتح سيناء أمام الفلسطينيين ويفضي إلي تحميل مصر عبء قطاع غزة بدلا من إسرائيل، وهو ما أربأ بأية قوة في مصر أن تقبله، ولكن أردوغان كخادم أصيل لواشنطن ينوب عنها في تبني مشاريعها التي لطالما ثرثرت عنها مراكز البحوث وبيوت التفكير الأمريكية لسنوات، حول تلك الإمارة الإسلامية الفلسطينية في سيناء (وهو ما جعلته موضوعاً أساسياً في ستة عشرة حلقة من برنامجي التليفزيوني (حالة حوار) عن الأمن والتنمية في سيناء) أراد التدخل في الشأن المصري ما يتصوره محققا لما تريده أمريكا، ثم أخيرا فإن القناع عبر ذلك التدخل انحسر كذلك عن وجه أردوغان بك في نوع علاقته بإسرائيل، إذ يطرح القائد التركي (المتزرزر علينا والذي لا يتوقف عن انتقاد طراوتنا في مواجهة تل أبيب)، فكرة رفع عبء غزة عن إسرائيل وتحميله علي مصر، وهنا بان شديد ارتباطه بالمصالح الإسرائيلية وتخديمه عليها.