يفرض التاريخ في لحظات التغير المصيري علي المهتم بالرصد والشأن العام التجرد في الرؤي، وعدم البخل بمحصلة العمر من المعارف للمساعدة استجلاء الحقيقة، بما يسهم في توضيح الفوارق بين ثوابت الأمم التي عليها قامت واستمدت وجودها، وبين المتبدلات من الأمور. من هذا المنطلق تأتي رؤية اليوم لتعكس خوفاً من المستقبل، فرضه حال ما وصلت إليه الأمور في رؤية بعض المصريين لقواتنا المسلحة أو بالأصح بالتعبير " الجيش. فمما لا شك فيه أن من يدرك أ ب تاريخ هذا الوطن يؤمن تمام الإيمان بتفرد وخصوصية العلاقة بين المصريين وجيشهم، ببسيط العبارة إذا ما صح الجيش استنهض معه الوطن و إذا ما أصابه الوهن، مرضت الأمة المصرية، وبالطبع من علامات السطحية محاولة رصد دلائل هذه العلاقة الفريدة في سطور بسيطة معدودة، إلا أنه من المهم في لحظات التشويش علي الذاكرة الوطنية، ومحاولة البعض لإعادة تشكيل تلك العلاقة وفقاً لأدبيات تبدو في ظاهرها سليمة ولكنها تحمل في طياتها بذور تفتت الأمة، استدعاء الثوابت الوطنية حماية للمستقبل. فبداية، وحتي نتجنب اي شبهة أو لبس، انتقاد الاداء السياسي للمجلس الأعلي للقوات المسلحة مشروع وواجب ومفيد، وهو بالمناسبة ليس موضوعنا، لكن ما ألمني هو كيفية الانتقاد في المرتبة الأولي، و مساعي البعض لتصفية مواقفهم الفكرية من ثورة يوليو 1952 علي حساب "الجيش المصري" من خلال الإهانة غير المباشرة بالتحقير اللفظي كلفظ العسكر، ونشر ثقافة كراهية "الجيش" بين الجيل الجديد باعتبارها نوعاً من التقدمية والتحرر من قيود قيمية طالما أعاقت "من وجهة نظر البعض" تطور أوضاع حقوق الإنسان. في هذا الأمر سأتطرق لمشهدين يستحقان الوقوف لما فيهم من دلالة علي خطورة ما وصلنا إليه.. فقد هالني الأسبوع الماضي أن أري صورة لرسم متداولة علي الانترنت رسمتها طفلة صغير نجد فيها جندي يجر فتاة، وهو الأمر الذي قابله تعليقات من البعض مرحبين بهذا العمل الابداعي "غير المسبوق" ، في الوقت الذي شعرت فيه من جانبي بألم حاد، كيف لي و أنا الجيل الذي ولد فور انتصار أكتوبر وتربي علي أمنية أن يصبح "ضابط جيش"، ان يشهد ما وصلت به الأمور من حال يعبر به رؤيتهم لجيشهم باعتباره أداة تعذيب، طبعاً الواقعة التي تشير لها اللوحة معروفة، لكن هل تم اختزال تاريخ الجيش المصري الحديث من عهد محمد علي في هذه الواقعة ؟ هل تم اسقاط ما قام به هذا الجيش في تاريخ الحركة الوطنية المصرية، من فتوحات إبراهيم باشا ووقفة عرابي إلي إعادة تأسيس الجيش الحديث وتحوله من مجرد قوة تشريفة لقوة مقاتلة علي أيدي ثورة يوليو التي يكرهها البعض ؟ كيف نسي أو تناسي الجميع أن الجيش المصري لم يخرج أبداً غازياً وإنما دائماً اقترن خروجه بهدف وحيد هو الدفاع عن مقدسات الوطن وترابه؟!.. .تتضاعف المأساة إذا ما أدركنا أن كل من هم دون الثلاثين عاماً هم ضحية نظام التعليم في العصر السابق، و نشأوا في ظل تبدل الثوابت ومسح القيم الوطنية ، والترويج لبذور السلام ومعسكرات السلام الخ هذه المسميات في الوقت الذي حرص الجانب الآخر علي تبني الطريق المضاد من تجييش لنشأه الذي يجند إجبارياً رجالاً ونساء من سن الثامنة عشرة. الأمر الذي دفع بالعديد من أبناء الجيل انطلاقاً من الحاجة إلي الانتماء التي لم يشبعها المناخ العام أو مناهج التجهيل في نظم التعليم الصوري، ليحقق ذاته في الانتماء إما بجنون لفرق الكرة او التطرف الديني الصحراوي في فهم مغلوط لفكرة الأمة بحيث تمسح فيه تماماً فكرة الوطن وتستبدل بالأمة أو حتي يحب فريق كرة.. الحادث آخر محوره هو ما لمسته من مغالطات للبعض ممن يتناولون الشأن العام سواء علي صفحات الجرائد او علي قنوات التلفزيون، في حالة واضحة من جهل بالتاريخ الحديث للمؤسسة العسكرية المصرية وبطولات الجيش، أو تركيبة أجهزة ومؤسسات الدولة المصرية الحديثة، وعدم إلمام تام بمراحل إعادة بناء الجيش واستعادة الكرامة وانتصار اكتوبر، والتعامل مع تلك المراحل المحورية من روح الأمة باعتبارها كماليات، أو حوادث عابرة لا تستحق التوقف، واختزال مسألة علاقة الجيش بالشعب ، الجيش الذي يضم أبناء المصريين من العمال والفلاحين و الوزراء في حوادث تاريخية عابرة لتشكل الأساس بل المبالغة في الاستثناء بشكل يعكس رؤية منحازة لمنظور متأثر جداً في غالبيته بالمنظور الغربي لجيوش العالم الثالث في جمهوريات الموز التي هي أقرب للعصابات، بحيث يتعامل مع المؤسسة العسكرية تأثراً بتجارب أمريكا اللاتينية أو مراحل التحول في شرق أوروبا، متناسين انهم يتحدثون عن جيش ارتبط اسمه علي تاريخه بتحرير التراب الوطني، هنا لا التمس أي عذر لهؤلاء وإن كنت أشعر بالشفقة والتمس العذر لمن لم تتح له فرصة المعرفة أو من جاء ضحية نظام تعليمي مغرب، قد يفسح في صفحاته لاستقلال الولاياتالمتحدة أضعاف مضاعفة لما يعرضه، إن تطرق أصلاً لتاريخ وبطولات الجيش المصري.. في خضم ما المشهد المأساوي، نجد علي الجانب الآخر صوراً مضيئة بالغة الوضوح ، لشباب اختاروا سلوك الطريق الصعب في استجلاء الحقيقة، وتدوين التاريخ الحق لبطولات أبناء الشعب المصري وتضحيات جيشه، فلم يستسهلوا ادعاء البطولة بمسيرات لمهاجمة مقر الجيش، بل العكس انتهجوا منهج علمي لإبراز بطولات الجيش في حروب مصر الحديثة دفاعاً عن الأرض والعرض، ذهبوا لتدوين بطولات الصف والجنود، والأهم روايات عن الشهداء ممن دفعوا ضريبة الدم ثمناً لحرية استغلها الجهلة في زمن لاحق للهجوم علي مقر رمز "الجيش". و حتي لا تأخذني مشاعري في الحديث عن مجموعة من الشباب الذين لم ألتق بهم قط وجهاً لوجه ، لكني أشعر بصداقتهم وكأني أعرفهم منذ زمن طويل، يشرفني أن أدعو القراء لمطالعة موقع متميز هو موقع المجموعة 73 مؤرخين، الذي يضم قرابة الالفي موضوع و عددا مماثلا من الصور الحقيقية والروايات التي يحتاج أبناء الأجيال الجديدة من ضحية نظم التجهيل المتعمد والحرب النفسية إليها، حيث يمكن مطالعة الموقع علي الرابط http://group73historians.com/ هؤلاء الشباب امتد نشاطهم للرد علي المحاولات المضادة لتزييف التاريخ، والتواصل مع المؤرخين العسكريين العالميين لتصحيح الفهم المغلوط والوقوف أمام الدعاية المضادة التي تريد ان تسلب منا الإرادة. واخيراً لا مفر من إعادة النظر في ما آلت إليه مناهج التعليم، التي فضت عن عمد علاقة الشعب بجيشه.