محمود عارف تمنيت أن تعيش مصر التجربة الفرنسية في الممارسة السياسية.. لقد أكد الناخب أن فرنسا فوق الأحزاب مأساة مصر الحقيقية، في أحزابها، وبرلمانها واعلامها، المقروء والمسموع والمرئي.. في الماضي والحاضر، فلم يعد يشغل هذه الأحزاب سوي الصراعات علي كراسي الحكم.. وتنتهج في سبيل ذلك أساليب التهييج والتهريج السياسي، الذي يقود إلي الفوضي، والغوغائية.. وانتشار الشبيحة والبلطجية.. ويؤدي إلي الإخلال بأمن الوطن والمواطن.. والأحزاب في جميع الدول المتقدمة، تنشأ لتكون قوة دافعة إلي التقدم والتحضر والعيش الكريم وتداول السلطة.. والتنافس الشريف في مجال الخدمة العامة، وتوعية الناس بحقوقها وواجباتها.. إلا في بلادنا، حيث التخلف والجهل والمرض.. والفقر.. أصبحت عبئاً ثقيلا علي المواطن في القرية والمدينة.. وكان المأمول ان تكون أحزاب دول العالم الثالث، المتخلف، ونحن منها بالطبع، قوة دافعة إلي حياة أفضل، بعد ان ظلت البلاد، وأهلها تعيش حقبا تاريخية تئن من وطأة الحكومات المستبدة.. بداية من عصر محمد علي وخلفائه وآل بيته وذويه، منذ ان وطئت اقدام رأس الأسرة أرض مصر عام 1805 واستكثر المصريون علي أنفسهم ان يكونوا حكاما، وبايعوا جنديا البانيا حاكماً عليهم، يدير أمور البلاد وينهب ثرواته، ويذيقهم وأسرته سوء العذاب والمهانة إلي الدرجة التي قال فيها أحد خلفاء محمد علي للمصريين، عندما طالبوا بحق الحياة، أيها المصريون، ما أنتم ألا عبيد إحساناتنا.. ومن مفاسد الحكم الشمولي.. العمل علي سيادة مبدأ ان الشعب الجاهل أسلس قيادة من الشعب المتعلم، فالإنسان المتعلم يحرص علي حقوقه كاملة، فلا يتنازل عنها أو يضيعها، ويعرف ما عليه من مسئوليات ومن واجبات، فيؤديها كاملة غير منقوصة.. بغير تراخ أو تكاسل أو إهمال. باختصار.. الإنسان المتعلم، الذي أحسن تأهيله وتعليمه وتثقيفه لا يقبل »الحال المايل« تحت أي ظرف.. ويرفض الذل والمهانة، ويرفض ان تسرق أو تنهب ثروات البلاد وتهرب إلي خارجها.. لذلك حرصت الحكومات المتعاقبة من عهد محمد علي، باني مصر الحديثة لصالحه وصالح خلفائه من الأسرة العلوية.. إلي اليوم، حرصت النظم المستبدة بالسير »نحو الأمية« وليس »محو الأمية«.. ووضعت كل همها في تكوين إنسان يألف الظلم إذا وقع منه علي غيره، ويرضاه إذا وقع من غيره عليه.. ان سبب ما نحن فيه من ترد في جميع المجالات، مرده إلي تدهور أحوال التربية والتعليم، وفساد الذمم، وخراب الضمائر.. أو الاحساس بالمسئولية الوطنية.. ورغم مرور أكثر من 150 عاما علي دخول التعليم النظامي مصر.. لم تختف ظاهرة »الأمية«، بل في ازدياد مستمر، ويزداد خطرها أكثر وأكثر، بعد الثورة التكنولوجية وتطبيقاتها وتسارعها، فلم تعد الأمية، عدم معرفة القراءة والكتابة.. وغياب الوعي القومي.. بل امتدت إلي الأمية التكنولوجية، وأصبحت الفجوة المعرفية بيننا وبين العالم المتقدم كبيرة، وخطيرة.. فمن يعرف أكثر.. يسود ويتقدم ويسيطر علي العالم المتخلف.. وينهب ثرواته.. واكتفت دول العالم المتخلف، أو العالم الثالث، كما يحلو للبعض تسميتها، من باب الدلع والسخرية، أصبحت هذه البلاد سوقا لتصريف تكنولوجيات الدول المتقدمة. وإذا قلنا أن مأساة مصر الحقيقية في أحزابها وبرلمانها واعلامها، فإننا لم نتجاوز الحقيقة.. في مصر القديمة، والحديثة.. وبدلا من أن يكون الاعلام المقروء، والمرئي والمسموع، لسان حال الشعب ومرآة لمتاعبه وأحلامه.. أصبحت لسان الحاكم المستبد.. وتبرير جرائمه في حق الشعب. وأنظر، إلي الأحزاب، والفضائيات، وما يجري فيها ليل نهار.. تجد الأحزاب والاعلام في واد والشعب في واد آخر.. يبحث عن أمنه، وقوت يومه.. ويذكر التاريخ ان الأحزاب السياسية، نشأت في معظمها في كنف السلطة، بداية من حكم محمد علي وإلي قيام ثورة 32 يوليو 2591.. ويذكر لنا المؤرخ الكبير د. يونان رزق في مؤلفه: الأحزاب المصرية قبل ثورة 2591، ان أحزاب هذه الفترة، كانت توجه ولاءها للوالي أو الملك، وكانت نابعة من إرادة القصر وتابعه له. ولم يختلف الأمر كثيرا بعد قيام ثورة 32 يوليو 2591، وكان المأمول ان تتطهر البلاد من مفاسد الأحزاب القديمة.. وان تنشأ أحزاب تكون ضياء ونورا لحياة حزبية راشدة، وحياة سياسية نظيفة.. تتضافر فيها كل الجهود لبناء مصر الحديثة، ولكن للأسف الشديد، انحرفت الثورة عن مسارها، وبدأت الثورة تأكل ابناءها، ومن أبرزهم اللواء محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر بعد الثورة، بعد إلغاء الملكية وانهاء حكم الأسرة العلوية، وكان آخرها الملك فاروق. فقد تم عزل محمد نجيب من رئاسة الجمهورية.. في مارس 4591، وعندما طالب الشعب بإعادته، وبالحرية والديمقراطية، تم كبته بالحديد والنار، وفشلت الدعوات المطالبة بالمبادئ الإنسانية، بل ان الثورة قامت بتسيير جماعات معروفة الهوية، والقصد تنادي بسقوط الحرية والديمقراطية، بل ان بعض قادة الثورة أخذوا يزيفون الحقائق والتاريخ. فقد كتبوا في مذكراتهم ان الشعب هو الذي ثار، ورفض الحرية.. وحتي يحكم النظام الشمولي قبضته علي البلاد والعباد، اتجه إلي نظام الحزب الواحد، والتنظيم السياسي الواحد، فكانت هيئة التحرير، ثم الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي، ثم الحزب الوطني الديمقراطي.. وعندما تحولت المنابر السياسية التي أقامها الرئيس أنور السادات في مسيرته الديمقراطية، إلي أحزاب قامت ثلاثة أحزاب، يرأسها ثلاثة من الضباط.. وبعد ثورة 52 يناير 1102.. واسترد الشعب حقه في الحياة الحرة الكريمة، قامت أحزاب كثيرة، لا تعد ولاتحصي، وكانت مثل سابقتها أحزابا ورقية، ليس لها وجود في الشارع السياسي، وفي الحياة المصرية.. الكل يسعي إلي السلطة ولا شئ غير ذلك.. واعتقد ان المشهد السياسي الذي نراه الآن علي الساحة السياسية، والذي نعيشه في هذه الأيام خير شاهد علي ما نقول.. والحديث يطول.. فرنسا.. النموذج.. والأمل تابعت، كما تابع الملايين عبر الفضائيات التسابق إلي قصر الإليزيه، مقر الحكم في فرنسا.. بين فرنسوا اولاند الاشتراكي، وبين نيكولا ساركوزي اليميني المنتهية ولايته.. وتمنيت ان تعيش مصر، مثل هذه التجربة، النموذج في الممارسة السياسية وهي تجربة ثرية رقيا وتحضرا.. ورغم التعصب العقائدي، من يسار، ويمين، ووسط، ومحاولة الكل جذب أصوات الناخب الفرنسي إلي صفه ببرامج مدروسة.. وتخطيط جيد.. إلا أن هدف جميع الأحزاب الفرنسية هو اعلاء شأن فرنسا، وان فرنسا فوق الجميع.. واللافت للنظر في هذه الانتخابات النموذج أمور كثيرة، منها ان أماكن الاقتراع أو التصويت غاية في النظافة والنظام، وفي الحرص علي آدمية الإنسان.. سواء كان ناخبا أو مشرفا علي العملية الانتخابية.. ومنها ايضا ان ابواب مراكز الاقتراع فتحت امام 64 مليون فرنسي، في الموعد المحدد. وبلغت مشاركتهم في الانتخابات 28٪ وبعد غلق مراكز الاقتراع في الموعد المحدد.. بنصف ساعة، تم اعلان اسم الفائز برئاسة الجمهورية الفرنسية.. وقد تم الفرز الكترونيا، لم يستغرق سوي ثلاثين دقيقة.. وظهرت صورة الفائز علي شاشات العرض العملاقة، التي انتشرت في الشوارع والميادين، بطول البلاد وعرضها. ومن الملاحظ أيضا انه عقب اعلان اسم الفائز، فرنسوا اولاند، قال عقب فوزه لانصاره، وكان متواجدا بينهم في مدينة »تول« وسط فرنسا ان الشعب الفرنسي اختار التغيير، من أجل مستقبل أفضل.. واعلن انه سيكون رئيسا لكل الفرنسيين.. وتوجه بالتحية إلي منافسه ساركوزي الذي قاد فرنسا طوال خمس سنوات.. وانه يستحق بهذه الصفة احترامنا.. ومن جانبه سارع ساركوزي إلي الإقرار بهزيمته، واتصل بالفائز لتهنئته بتولي رئاسة فرنسا.. وقال امام انصاره في باريس: الآن يأتي لفرنسا رئيس جديد، انه خيار ديمقراطي جمهوري.. الرئيس اولاند، هو الرئيس الجديد في فرنسا.. يجب احترامه. لقد كانت هذه الانتخابات، هي بحق، نموذجا يحتذي، سواء في الدعاية الانتخابية البعيدة عن الاسفاف، وفي تداول السلطة.. فهل نري هذا النموذج المحترم في انتخابات رئاسة الجمهورية التي سوف يشارك في انتخاباتها الشعب المصري بعد أيام قليلة من الشهر الحالي.. بعيدا عن التنابذ والشتائم والتهييج أو التهريج السياسي.. أملنا ان نري هذا النموذج في بلادنا.. وان تكون الانتخابات البرلمانية والرئاسية والمحلية علي هذه الشاكلة.. ديمقراطية سليمة، ونظيفة.. وان تكون مصر للمصريين، وهدف الجميع.. نأمل ذلك.. وبالله التوفيق. في رياض الشعر قال الشاعر الأندلسي: قل لمن يدعي وزيراً وزير من أنت يا وزير؟ والله ما للأمير معني فكيف من عينه الأمير؟ من الموروث البرلماني المصري، يقول الأديب عمر الصباحي: الشعوب عند انتخابها البرلماني تنتخب نائب لتحقيق الأماني واحنا يطلع عندنا نائب شيطاني يدخل المجلس يقول: حبك كواني والبلد في محبته تذهب ضحية مصر فيها البرلمان.. تسمع وتسلم كل دور نملاه عمم.. يارب ترحم بس يجري يروح هناك.. يفهم ما يفهم شعب طول عمره مصاب بالبصمجية