ثقافة رسخت في اذهان الناس اربعين سنة منذ عهد السادات بأنك تستطيع أن تخالف القوانين في البناء وتتصالح، أو تخالف القوانين وتدفع رشوة للحي، أو تخالف القوانين ولايعرف أحد . هذه الثقافة التي شجع عليها النظام الناس فيها معذورون لأنها اصبحت سلوكا عاديا . لكن الذي جري ويجري في الاسكندرية يفوق كل توقع. ففي العام السابق ارتفعت عمارات شاهقة في الأزقة والشوارع الضيقة . وفي شوارع لا يتوقع أحد أن يحدث فيها ذلك لأنها ذات طابع خاص ومميز مثل شارع تانيس الذي لا يزيد عن عشرة امتار ولم ترتفع فيه العمارات في عهد الملكية أو ثورة يوليو وحتي الآن عن أربعة او خمسة أدوار . إذا بهذا الشارع بعد الثورة وقبلها بقليل ترتفع فيه عمارات شاهقة ازدادت الآن ليصل ارتفاعها الي اثني عشر طابقا وأكثر ,وفي كل الشوارع الموازية للكورنيش حدث ذلك بل في حي راق مثل كفر عبده وأمام الجميع ,وفي كل الأحياء الشعبية ذات الشوارع الضيقة في القباري وكرموز وغيط العنب ومينا البصل والمكس والدخيلة , والمصيبة الأكبر في العجمي في الهانوفيل والبيطاش حيث الشوارع بعيدا عن الشارع الرئيسي كلها عشوائية لا تزيد عن أربعة أمتار أو ستة . . ظهر المقاولون بكثافة من الريف والصعيد مستغلين حالة الفوضي وضعف الحكم بعد الثورة، وراحوا يشترون البيوت من أصحابها ويخرجون ساكنيها الي شقق مؤقتة حتي يتم البناء ويعودوا إلي شققهم نظير ان يرتفع البناء ارتفاعا شاهقا يتقاسم فيه صاحب العقار المكسب مع المقاول . كان ذلك يتم من قبل باستخدام شخص يسمي الكحول يتم كتابة العقار بإسمه ويتحمل هو كل القضايا نظير مبلغ معين، والقضايا عادة تنتهي بالتصالح ,ووجود هذا الشخص من باب الاحتياط فقط، لأن المالك مع المقاول يدفعان له كل ماهو مطلوب لتنتهي القضايا . لقد رأيت في زيارتي الأخيرة مئات العمارات حيث كانت زيارتي تستدعي الذهاب الي العجمي لحضور أحد الأفراح لقريب لي . رأيت في طريقي كل ذلك وعرفت من النشطاء علي الفيس بوك وتويتر مايحث في الأحياء الأخري وكانت البداية للنشطاء هي التي نبهتني من قبل الي ما كتبت عنه في صحيفة أخري وهو قرار الدكتور الجنزوري بإخراج عمارة شيكوريل من التراث الحضاري للمدينة تمهيدا لأن يبيعها أصحابها لمن يهدمها ويبنيها مولا تجاريا . تكرر الأمر في العمارة الصغيرة التي بها النادي اليوناني بشارع سينما لاجيتيه، وهو بالمناسبة صار منذ وقت طويل شارعا تجاريا للملابس شديد الزحام، ولم يكن ممكنا أن تنجو هذه العمارة الصغيرة التي في شارع جانبي منه من عملية البيع او الشراء لتتحول بدورها الي مول وترتفع في الأيام القادمة إلي أدوار عالية خارقة كل قوانين البناء . لقد واجه نشطاء الإسكندرية من شباب الثورة كل هذا ولا يتوقفون عن فضح ما يحدث من قرارات لرئيس الوزراء أو غيره . لكنهم في النهاية وحدهم والمحافظة بعيدة عن هذا كله والاحياء تقف عاجزة وهذه العمارات العالية تتم في خلال شهر واحد ويقال أنهم يضيفون مادة معينة الي الأسمنت لتتماسك الخرسانة بسرعة ويتم البناء والتعلية قبل أي قرار بإيقاف العمل . للاسف الشديد لا تتوقف هذه الإنتهاكات ولن تتوقف إلا بمقاومة كبيرة من نشطاء الاسكندرية الذين سيدخلون في مشاكل حقيقية مع المقاولين والبلطجية لا يقدرون عليها، ولا أعرف لماذا لا توصل المحافظة مع النشطاء حبل الود أو أي نوع من الاتصال يساعدها علي اكتشاف ما يحدث بعيدا عن العيون اذا كان بعيدا عن العيون , والذي يمكن إيقافه بعمل بسيط جدا هو أن يقف عسكري أو أمين شرطة أمام كل بيت يهدم وتقام بدلا منه عمارة شاهقة حتي يتم البناء وفقا للقانون .أكتب ذلك عن الاسكندرية فقط لأن نشطاءها بدأوا يصرخون لكنه للأسف يحدث في مصر كلها . كيف يضر الشعب نفسه الي هذا الحد؟ للأسف هذه هي الثقافة التي سادت عبر ثلاثين سنة . كيف تحصل علي النقود من أسهل الطرق وليس مهما مايحدث بعدها وأوله ان طاقة الصرف الصحي والمياه في كل هذه المناطق لن تتحمل هذه المباني، لكن ماذا يهم من بني وباع العمارة إذا تحولت الشوارع الي برك . وطبعا لن أتحدث عن التشويه فثقافة الجمال انتهت . أما محافظ الاسكندرية الذي رأيته في افتتاح مسرح بيرم التونسي يلهب الحضور حديثا عن ثورة يناير العظيمة فأحب أيضا أن أضيف اليه سؤالا، وهو لماذا يعاد بناء المحافظة في مكانها القديم بشارع فؤاد . لقد احترقت المحافظة أيام الثورة وهدمت بعدها فهل من الضروري أن تقام في نفس المكان ؟ لماذا لا تبني بعيدا ويستفاد من المكان في توسعة المتحف اليوناني الروماني وهو معلم عظيم من معالم المدينة. لماذا حتي اذا لم يتم التنسيق مع الآثار من أجل ذلك لا تقام مكانها حديقة والشارع كله ليس فيه حديقة واحدة . هل يمكن أن يفكر في ذلك قبل أن يتم البناء الذي يتم التمهيد له الآن. وإذا لم يكن لدي المحافظة أموال لشراء مكان آخر فهل يمكن أن يجرب اللجوء الي المجتمع الأهلي للتبرع لشراء أرض كبيرة بعيدا عن المكان القديم لبناء المحافظة. هذه الطريقة كانت ناجحة وعظيمة قبل ثورة يوليو1952 بنيت بها مدارس ومستشفيات ومنها مثلا مستشفي المواساة الكبيرة بالأسكندرية .