تناول الاسلام في الحض علي الرحمة تقرير مبدأ التكافل الاجتماعي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلي الله عليه وسلم اذ جاء رجل علي راحلة فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: »من كان معه فضل ظهر فليعد به علي من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به علي من لا زاد له.. فذكر من أصناف المال ما ذكر حتي رأينا انه لا حق لأحد منا في فضل«. انها لصورة رائعة من صور التكافل الاجتماعي تدعو من كان معه فضل ظهر أي راحلة ان يتصدق بها علي المحتاج، وكذلك الوضع بالنسبة لتطور وسائل النقل والمواصلات، علي صاحب السيارة معاونة المحتاج وحمله وأيضا من كان معه شيء زائد عن حاجته أن يتصدق به علي المحتاج، ثم أخذ يعدد كثيرا من أنواع المال، موصيا ببذلها، والأمر هنا بالتصدق عما زاد محمول علي الندب عند الجمهور، ويحتمل أن يكون للوجوب وذلك في حالات الضرورة. وتعالج الرحمة كذلك سائر العلاقات الإنسانية، فتعمل علي تحريرها من قسوة الهجر والخصام، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: »لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام«. والمراد بالرجل في الحديث: هو المسلم، والحديث يوضح حكم الهجر بين المسلمين، فيحرم أكثر من »ثلاث ليال« ويباح في الثلاث، أما اذا كانت هجرة المسلم بسبب غضب من أجل الله فلا مانع أن تزيد عن ثلاثة أيام حتي يذهب سبب الغضب ويفيء إلي أمر الله، وفي هذا الحديث دعوة لاخوة الايمان بين المسلمين، والعمل علي إزالة ما يعكر الصفو بينهم، قال تعالي: »وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين« (الأنفال: 64). وتنداح الرحمة في أبعاد هائلة، حتي تصل للانسان في وقت هو في أشد الحاجة فيه إلي الرحمة وهو ما بعد الموت، فيرشد الرسول صلي الله عليه وسلم إلي أسباب الرحمة والثواب بعد الموت. عن أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: »إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له«. و»الصدقة الجارية«: هي المستمرة الدائمة كالوقف والوصية، و»العلم الذي ينتفع به«: يراد به أولا: علم الكتاب والسنة، ثم العلوم المساعدة، ثم كل ثقافة تعمل علي نهوض الأمة ورقيها. و»الولد الصالح«: هو الطائع البار. هذه الأمور تعمل علي استمرار الرحمة والمثوبة بعد الموت؛ لأنها امتداد للانسان، وقد أجمع العلماء علي وصول ثواب الصدقة والحج، واختلفوا في الصوم والصلاة وقراءة القرآن. إلا اذا كان الصوم واجبا علي الميت فقضاه وليه عنه. وقد وردت أحاديث أخري بأمور غير هذه الأمور كبناء المساجد، وبناء بيت لأبناء السبيل وغير ذلك، وهذا لا ينافي الحديث الذي معنا؛ لأنه لم يحصر ما ينتفع به الميت في هذه الأمور فحسب، أو يكون قد أخبر بما زاد عليها بعد، فنبه عليه في غير هذا الحديث، كما انه لا تناقض أيضا بين الحديث وبين قوله تعالي: »وان ليس للإنسان إلا ما سعي« (النجم: 93). لأن تلك الأمور المذكورة في الحديث تعتبر من كسب المرء وعمله، وهي أيضا من باب الفضل الإلهي، أما الآية فهي تبين مقياس العدل، أو أن تلك الأنواع قد استثنيت من عموم الآية. ولا تقتصر الرحمة علي هذه الجوانب، بل ان الإسلام حث عليها في شتي مجالات الحياة: الرحمة باليتيم، عن أبي هريرة رضي الله عنه ان رجلا شكا إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال صلي الله عليه وسلم: »امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين«. والرحمة بالمرضي وذوي العاهات، قال تعالي: »ليس علي الأعمي حرج ولا علي الأعرج حرج ولا علي المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما« (الفتح: 71). والرحمة بالخدم رفقا بهم، وتجاوزا عن هفواتهم، عن أبي مسعود الأنصاري قال: كنت اضرب غلاما بالسوط فسمعت صوتا من خلفي: »اعلم أبا مسعود«، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني اذا هو رسول الله صلي الله عليه وسلم فإذا هو يقول: »اعلم أبا مسعود ان الله أقدر عليك منك علي هذا الغلام«، فقلت: يارسول الله، هو حر لوجه الله تعالي. فقال: »أما لو لم تفعل للفحتك النار«. ولا تقتصر الرحمة علي الإنسان، بل انها تشمل الحيوان رفقا به وعطفا عليه. وهكذا نري كيف اتسعت دائرة الرحمة في الإسلام، حتي شملت القريب والبعيد، والانسان والحيوان، ولا غرابة في هذا، فإن الله تعالي هو الرحمن الرحيم، وأرسل رسوله رحمة للعالمين، فالرحمة هي جوهر الرسالة السماوية، وفي ظلها لا تنعم الأمم وتسعد الشعوب برحمة ربها إلا اذا طبقت مباديء القرآن والسنة، طاعة لله والرسول، كما قال تعالي: »وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون« (آل عمران: 231).