ذهبت إلي سيوة فذهلت، انزعجت، وصدمت.. سيوة ليست فقط الواحة التي يسمع عنها المصريون ويراها قلة قليلة منهم ، ولكنها أيضا تلك المساحات الواسعة من بحر الرمال الأعظم الممتد في قارة أفريقيا من سيوة حتي المغرب غربا ودول جنوب الصحراء جنوبا، وما يضمه هذا »البحر« من تنويعات طبيعية فريدة وخلابة، وما تتفجر فيه من عيون ماء في صحراء جرداء. الذهول من هذه الإمكانيات الطبيعية والتراثية النادرة في العالم والتي نمتلكها ولا نهتم بها. الانزعاج من إهمال هذه الإمكانيات وعدم الاستفادة منها. صدمت لأنني لم أجد حركة سياحية تتناسب مع ربع هذه الإمكانيات علي الأقل، وبالتالي لم أجد البنية السياحية/الاقتصادية المناسبة لحركة سياحية واجبة لكنها مهدرة . كل إمكانية مؤكدة مهدرة هي في تقديري نوع من إهدار المال العام . المال العام ليس فقط أموالا نقدية متداولة . المال العام هو أيضا في كل عنصر من عناصر ثروة الوطن : هو في الثروة البشرية المهدرة. هو في الرمال والجبال المهملة . هو في الثروة الزراعية المجرفة . هو في التراث الذي يدمره أصحابه من الأشقاء المصريين، سواء في شكل مبان أو حرف أو تراث مادي أو شفاهي فني أو غير ذلك.. كلها ثروات مصر المهدرة أو المهملة أو المدمرة.. بلد يملك ثروات تؤهله ليكون دولة كبري ، ولكن أصحابه يصنعون منه دولة صغري. سيوة دليل آخر وليس أخيرا. ودعوني ألخص لكم رحلتي إلي سيوة مع عدد من زملائي في الجهاز القومي للتنسيق الحضاري لتوضيح ما أقول. لم نذهب بدعوة من أحد . لم يطلب منا أحد أن نهتم بسيوة. بل ذهبنا لمعرفتنا المسبقة بقدرها وبما تعانيه من مشاكل . لكن ما رأيناه علي الطبيعة فاق كل ما نعرفه وما توقعناه. المشكلة الأولي أمام من يغامر بالذهاب الي سيوة هي بعد المسافة. فهي تبعد عن عاصمة مصر بحوالي 820 كيلو مترا، وتبعد عن الإسكندرية 600 كيلومتر، وتبعد عن مدينة مرسي مطروح عاصمة المحافظة التي تتبعها سيوة 300 كيلو متر. فما بالك بالمسافة بينها وبين مدن الصعيد مثلا؟ ليس أمام المسافر الي سيوة سوي طريقين بريين: طريق من مدينة مرسي مطروح، وطريق من الواحات البحرية. الغريب في طريق الواحات أن عليه وحدات من حرس الحدود. فإذا كنت منطلقا من سيوة الي الواحات سيعترضك حرس الحدود وكأنك خارج من دولة أخري. وإذا انطلقت من الواحات البحرية الي سيوة سيعترضك أيضا حرس الحدود وكأنك داخل دولة أخري !! وأنت في الحالتين مطالب بتصريح مرور داخل مصر وأنت مصري!! لماذا ؟؟ لم أفهم حتي الآن!! من يريد أن يصل الي سيوة بالطائرة لن يجد هذه الطائرة، لأنه ليس هناك مطار مدني لا في سيوة ولا في أقرب مدينة إليها وهي مرسي مطروح. هناك مطار عسكري في قاعدة مرسي مطروح الجوية. وهناك شركة واحدة مدنية تستخدم هذا المطار العسكري هي شركة خدمات البترول الجوية المخصصة لحمل العاملين في شركات البترول. وهي الشركة التي يستخدم طائرتها السيد محافظ مطروح للذهاب الي عمله. وهي الشركة التي تكرمت باستضافتنا في رحلتنا الي سيوة بفضل الصديق العزيز المهندس احمد الجندي وكيل أول وزارة البترول واللواء طيار جميل مراد رئيس الشركة. خرجنا من المطار العسكري فوجدنا الدكتور البيلي حطب مدير محمية سيوة في انتظارنا. شاب وطني ممتلئ بالحيوية والنشاط. هو المسئول الذي " صنع " لنا رحلتنا. يعود إليه الفضل في اكتشافنا لهذه الإمكانيات المهولة العظيمة التي تمتلكها مصر في سيوة. ولذلك غفرت له كل ما تسبب فيه من إرهاق لنا في تلك الرحلة، وبخاصة رحلاته الصاروخية العائمة في بحر الرمال الأعظم. في منتصف الطريق من مرسي مطروح الي سيوة تقريبا انحرفنا يسارا بزاوية حادة لندخل في طريق آخر.. هو ليس طريقا بالمعني المفهوم ، لأننا عبرنا بالسيارات في الصحراء مائة كيلومتر بين تكوينات طبيعية مختلفة من رمال الي هضاب الي أحراش وغير ذلك.. كانت هذه أول مرة نعبر فيها نقطة لحرس الحدود.. لم نكن مغادرين مصر عمليا، بل كنا متجهين الي قرية صغيرة، منسية في وسط الصحراء لا تصلها أية وسيلة للمواصلات، اسمها »الجارة« يسكن فيها 479 مواطنا لا يزيدون ولا ينقصون. يتعادل فيها الميلاد مع الموت ليظل عدد السكان علي حاله. أذكر أنني سمعت عنها مرة من قبل بمناسبة هدية أرسلها لهم الرئيس حسني مبارك. ثم نسيت اسمها حتي فوجئت بتوجهي إليها . نزلنا في مضيفة القرية. أصر كبراؤها علي دعوتنا الي الغذاء بما جادوا به. أعطاني أحدهم كتابا تذكاريا يسجل فيه زوار القرية كلماتهم .سعدت لأنني وجدت من بين هؤلاء الزوار السيدة هيلاري كلينتون حرم الرئيس الأمريكي الأسبق ووزيرة الخارجية الحالية. لم يكتف كبار القرية بالغذاء بل حملونا هدايا من مصنوعاتهم اليدوية البسيطة والجميلة من سعف النخيل.. شعرت بالاعتزاز بأن مصر لا يزال فيها عينة من هؤلاء المصريين الأصلاء . كانت المضيفة في سهل منبسط وسط بيوت السكان الحديثة . ذلك لأن بيوتهم القديمة مجاورة لها لكنهم تركوها. كان معنا آخر من تركها في الثمانينيات من القرن الماضي. البيوت القديمة كانت متلاصقة فيما يشبه القلعة ، تصعد إليها بسلالم وتمر عبر طرقاتها الضيقة الدائرية الصاعدة الي أعلي القلعة. أشار إلي مرافقي قائلا : هنا كان بيتنا . فوجدت حجرة فسيحة واحدة متهدمة . هذه القرية القديمة متكررة في عمران سيوة. يطلقون عليها اسم »شالي« وتعني القرية بلغة أهل سيوة . وهي لغة خاصة منحدرة من اللغة الأمازيغية التي يتحدث بها البربر من سكان شمال أفريقيا وكانت تلك أيضا أول مرة أري فيها »الكرشيف«، وهي خامة يبنون بها بيوتهم ويطلون بها حوائطهم أيضا. وهي خامة مستخرجة من طينة ارض الواحات الخاصة. لم يهتم أحد بالقرية القديمة »شالي« سوي إحدي شركات البترول التي رممت الطابق الأول منها وأعدت دورات مياه حديثة فيها. ويجب تسجيل هذه القرية القديمة في سجلات التراث المعماري المتميز طبقا للقانون رقم 144 لسنة 2006 وطبقا لقانون التنسيق الحضاري رقم 119 لسنة 2008 وترميمها وحمايتها. لكنك تتعجب لأن لجنة حصر المباني التابعة لمحافظة مطروح، والتي تتبعها قرية الجارة لم تعمل منذ صدور القانون المنظم لعملها عام 2006 وحتي اليوم!! ونحن نغادر شالي زكمت أنوفنا رائحة بركة راكدة من مياه الصرف وما حولها من مخلفات.. عادي !!ونرجو أن يكون غير عادي. في طريق عودتنا من الجارة أخذنا طريقا آخر لنري عين مياه معدنية سموها »تبغبغ« تنطلق من جوف الصحراء ساخنة جدا لترتمي علي الأرض ممتدة حافرة لنفسها مجراها اللولبي. تاركة لونا أحمر علي الأرض بتأثير خام الحديد الذي تحمله المياه. هكذا تنطلق مياه طبيعية معدنية في جوف الصحراء المصرية لتترك عبثا علي مدار الساعة، وإلي أن يشاء الله.. وحولها شجيرات نخيل شاخت أو تصارع الحياة أو ماتت بالفعل في سهل منبسط. لو كان هناك من يملك ويهتم ويخلص لصنع من هذه الطبيعة منتجعا سياحيا عالميا عظيما.. سوف أكرر هذه ال »لو« كثيرا في حديثي عن سيوة. بدأت في استعجال الدكتور حطب عندما رأيت علامات الليل تنسدل علي الطبيعة.. وتوقفت عن التعجيل بعدما ادلهم علينا الظلام. استسلمت للقدر ولسائقي السيارات وبخاصة »السنوسي« العالم بكل حبة رمل في صحراء سيوة. كان ما حولنا ظلاما في ظلام حيث تحول بحر الرمال الي بحر الظلمات. وتعجبت بعد ساعة كيف خرج بنا السائقون فجأة من هذا البحر الي أسفلت الطريق الي سيوة! أوصلنا الفندق ليلا. استرحت لأنني وجدته مبنيا علي الطراز المعماري السيوي بخامة الكرشيف تتخلله أشجار النخيل والزيتون. اكتشفنا في اليوم التالي أنه أفضل فندق في مدينة سيوة التي تعاني من قلة الفنادق من جهة، ومن تواضع مستواها من جهة أخري.