أتطلع من النافذة المستديرة إلي أرض المطار، إلي الأرض، أرضي، أغلقت هاتفي المحمول، آخر من سمعت صوته زميلي وصديقي أسامة شلش الذي أصر علي صحبتي وتمضيته أكثر من ثلاث ساعات في المطار. أما الحميمان، الاقربان من رفاق الدرب وأصحاب العُمر، فقد نجحت في اقناعهما بألا يحضرا، أو فلأكن دقيقا، تضليلهما. الآن بعد عمر من الوداع المتواصل أصبحت أخشي اللحظات الأخيرة المكثفة، فكانت أمي الصعيدية القوية، تحرص علي ألا تذرف دمعا عند سفري، خاصة إذا صعب وطال، عرفت من شقيقتي فيما بعد انها كانت تجلس صامتة، تتمني للغائب السلامة.. لكنها لا تبدي دمعة، في ذلك علامة غير مستحبة، ولكم دارت وأخفت. أرض المطار شبه خالية، الطائرة الضخمة تتخذ وضعا متأهبا بعد إغلاق الأبواب، يقف رجل يرتدي سترة فوسفورية خضراء، علي اذنيه سماعتان لابد انهما متصلتان بجهة ما، ثمة صلة بينه وبين قائد الطائرة عبر الاشارات، يرفع يديه، إبهاماه لم يفردا بعد، أعرف هذه اللحظة، لكم رأيتها مرارا، غير إنها اليوم ذات خصوصية، أطيل التركيز متطلعا إلي الرجل الذي قدرت انه في منتصف العمر، إنه آخر من آراه قبل الاقلاع من جماعتي الذين انتمي إليهم، من المصريين، تري، ما اسمك ايها الغريب عني، المرئي لي، أين تسكن؟ وإلي أي جهة ستأوي الليلة؟ ما أحوالك، وما اسم العمل الذي تقوم به الآن؟ من أنت يا من آراه ولا يراني فلكم يتكرر وقوف الطائرات أمامه كل يوم، ولكم يعطي إشارة التقدم علي الممر؟ ينزل إبهاميه، وعندئذ تبدأ الطائرة في الاهتزاز تمهيدا للتقدم، يستدير مبتعدا، يمشي بخطوات متوازنة، غير انه ينحني إلي الأمام قليلا، يداه عند طرفي جيبه، بنطلونه أزرق اللون، السترة الخضراء الفوسفورية بدون أكمام، تشير إلي موضعه، موقعه ليلا، مع بدء حركة الطائرة ألتفت إلي الخلف لأتابعه، كلما ابتعد اختفت بعض التفاصيل، عند نهاية المسافة أصبح وجوده في بصري لونين، الأخضر لون السترة، والأزرق لون البنطلون، آخر من رأيته في المطار يتحول إلي لونين سأظل أذكره، لن أعرفه، ربما لن ألتقي به، فيا صاحب الاشارة، يا من أجهل اسم وظيفتك، يا من رفعت أصبعيك للطائرة المصرية المتجهة إلي نيويورك، رحلة رقم 589، الأربعاء، الحادي والعشرين من يوليو، العام العاشر من الألفية الثالثة المنقضية علي ميلاد السيد المسيح، أيها الغريب لي لك السلام من نقطة غير ثابتة فوق البحر الأبيض، وإذا قدر لنا اللقاء يوما فلنتحدث، وليعرف كل منا الآخر. الأربعاء الساعة الثانية عشرة بعد تمام الاقلاع، والميل تجاه الشرق أو الغرب، تستوي الطائرة، اتطلع متشبثا بالأرض من خلال بصري، الحركة بطيئة، أعرف الحد الذي سأتراجع فيه وأبدأ القراءة، عندما أعبر بر مصر فوق الإسكندرية، عندما يبدو لونان احفظهما جيدا، الأصفر الذي يميل إلي البني الفاتح، والأزرق، الأرضي والبحر، أري رحب النيل عند رشيد، امتداد الساحل شمال الإسكندرية، قوس البر ينحني علي البحر بينما يشتد اللون الأصفر، الدلتا يختفي لونها الأخضر للأسف بسبب زحف العشوائيات، مللت ذكر هذا، في تلك الرحلة انني أقرب إلي المعاني المجددة، فعندما يقف الإنسان علي ذروة مرتفعة، أو نقطة مهمة في الطريق، يتأمل المعاني ويتجاوز عن الظواهر، عن التفاصيل. نقطع الفراغ، ليس الفضاء الا فراغ لا يحده إلا مدي، نقيضه البحر والبر، والعلاقة بين الضدين وثيقة، تماما مثل الزمان والمكان، كلاهما وجهان لعملة واحدة، لولا الفراغ ما كان الامتلاء، الكوب الذي نشرب فيه ما يحدد وظيفته ذلك الفراغ داخله، ما توقف طويلا أمام الفراغ والامتلاء الفلسفة الصينية، وسوف أعود إليها كثيرا، من القاهرة إلي نيويورك مسافة تقطعها طائرة مصر للطيران مباشرة في اثنتي عشرة ساعة، الفراغ متصل، لا حواجز فيه، حتي الحفر التي نشعر بها ولا نراها »المطبات« ظواهر عارضة، غير ان الإنسان يتعامل مع الفراغ طبقا لخبرته، لعلاقاته، لوجوده، لما ينتظره، لما تركه وراءه، هذه المسافة ما بين منطلقي من القاهرة وحتي الحد الواصل بين البر والبحر، أو لنقل الفاصل، فالوصل والفصل وجهان لعملة واحدة أيضا، هذه المسافة أقطعها بروح خاصة ونظرة مغايرة إذ إنها تعني بالنسبة لي الوطن، والوطن كما أؤكد مرارا ليس فكرة مجردة، والانتماء إليه جزء من الكينونة الإنسانية، لا يتناقض هذا مع الايمان الاشمل بالإنسانية، الأمر اشبه بدوائر متوالية، بعضها يكتمل في دمائي ومنها الذي يدور حولي، تمثل لي مصر بمكانها وزمانها المركز الرئيسي لوجودي، منها انطلق وإليها أعود، كل رحيل يتضمن عودة موازية قبل ان أبدأ، وقد عرفت مصر أرضا كما عرفتها برا، عرفتها أرضا منذ ان بدأت التجوال في دروبها وذاكرتها من خلال رحلات المدرسة الابتدائية والاعدادية، هذه الرحلات التي كانت جزءا أساسيا من البرنامج التعليمي، وليت وزير التربية والتعليم يعيدها بحيث تصبح جزءا أساسيا من المناهج التعليمية، في القاهرة متاحف كبري نادرة، لكن الصلة مقطوعة تماما بين ما تنشأه وزارة الثقافة الآن، وما انشيء من قبل خاصة في عصر الملك فؤاد، وبين وزارتي التعليم العالي والتعليم، جزر منفصلة متباعدة، لم يكن الأمر كذلك عندما كانت الدولة المصرية في أوجها، من مدرسة عبدالرحمن كتخدا الابتدائية بقصر الشوق، خرجنا إلي الأهرام، وإلي مقابر سقارة، مازلت أذكر سقفا رائعا مزدحما بالنجوم فشلت في العودة إليه رغم انني رأيت في سقارة ما لا يراه الآخرون بفضل التصاريح الخاصة التي يمنحها لي المسئولون عن الآثار في مقدمتهم الدكتور زاهي حواس، في مصر متاحف لا يوجد في العالم مثيل لها، من يعرف الطريق الآن إلي المتحف الزراعي، واحد من أهم متاحف العالم في رأيي، لكنه مهمل رغم ثروته النادرة، ليس من الزراعة فقط، ولكن من كل ما يمثل جوانب الحياة في مصر، أعرفه قطعة، قطعة، وقبل سفري هذا زرته لأنه ركن ركين من ذاكرتي، كان عمل والدي في وزارة الزراعة، وكان يصحبنا بانتظام إلي المتحف يتركنا هناك لنتجول ونتأمل ولم أكن ألعب، فقد كنت جادا، دائما أشعر انني أكبر من سني، تشغلني أمور كبري، واسئلة معقدة أحاول البحث عنها في الكتب، كل متحف موسوعة كبري، لكن أهم متاحفنا غير مدرج علي مناهج التعليم الآن، ولا علي برامج الشركات السياحية، لذلك يظل معظمها مجهولا، خارج السياق. تعرفت علي مصر من كافة الاتجاهات، كنا نقضي اجازة الصيف في جهينة مسقط رأسي، وهناك أصحب الوالد خلال جولاته علي صحبه ومن يعرفهم، عاش لأسرته وللناس، لذلك يشكل الصعيد بالنسبة لي الخلفية الأولي، والمنطلق الرئيسي، يتضافر معه القاهرة القديمة، في عام ستين كنت عضوا بفريق الكشافة، قمنا برحلة كانت لها تأثير كبير في روحي، سيرا علي الأقدام واحيانا بالقطار، قطعنا الطريق من القاهرة إلي أسوان، ورتبت الاقدار لنا حضور مناسبة عظمي، الاحتفال الذي ضغط فيه الرئيس جمال عبدالناصر الزر مفجرا أول عبوة في مشروع السد العالي، المرحلة الأولي تحويل مجري النهر. خلال عملي في مؤسسة التعاون الانتاجي كرسام للسجاد سافرت كثيرا لافتش علي الوحدات الصغيرة في الريف، كل منها في قرية نائية أو مدينة منسية، ركبت أنواع المواصلات كلها، ونمت في فنادق صغيرة وفي أماكن الضيافة المعروفة بالمنادر »خاصة في الصعيد«، عرفت شرق البحر وغربه، النيل كان محترما وقتئذ ونطلق عليه »البحر« لاننا في الصعيد لم نكن نعرف شيئا عن البحر الأكبر، فما البال بالمحيط الذي أثار عندي ما اثار منذ ان وقفت علي شاطئه أول مرة في باب الوداية بمدينة الرباط، ويوميا كنت اتأمل غروب الشمس، تماما كما أفعل الآن في نيويورك قبل سفري إلي كيفلاند لأدخل المستشفي الاسبوع القادم.