[email protected] مع حرارة الصيف الذي بدأ مبكراً إرتفعت سخونة الشارع وزادت غضبة الجماهير، فكيف تقرأ المشهد السياسي في بلادنا؟ كان هذا هو السؤال الأول الذي ما إن فرغت من الإجابة عليه حتي بادرني شاب آخر: ماهو آخر ما قرأت في الأدب وترك لديك إنطباعاً عما يحدث حولنا، أو كانت له دلالة لايخطئها عاقل أو مدرك لمعني السياسة؟ وكما في كل الندوات العامة كانت الإجابة في إيجاز: إنه ولا شك صيف ساخن، فإما أن نصطلي بناره وإما أن نأتي منها بقبس، وارجع البصر كرتين لتري حقيقة الصورة في مشهد أمة غاضبة حائرة، وهي لا تعرف من أين تبدأ ولا كيف تبدأ ولا علي من يكون الرهان، ورغم ذلك فلست قلقاً علي مصر، ويقيني أنها ستخرج من أزمتها أكثر عافية وأقوي عزماً وأمضي إرادة. وهي عائدة لا محالة إلي وعيها وصمودها وسابق عهدها. هكذا عودتنا مصر وباتساع تاريخها كله، فما تعثرت إلا لتنهض من جديد، وما وهنت إلا لتولد من جديد وما كبت إلا وسبقت من جديد، فتحت شمس مصر، أبداً لا تغيب الجياد الأصيلة. إنما قلقي كله علي النخبة السياسية والقوي الوطنية، إذ غابت حين توجب الحضور وتاهت حين كان عليها أن تقود، وترددت حيث كان ينبغي أن ترفع الإلتباس وتعلم الناس، توقظ الهمة وتستنهض الأمة. وحتي لا تأخذنا الشواهد والدلالات بعيداُ، نجمل ما نراه من معالم الصورة في نقاط محددة: 1 نحن أمام لحظة فارقة في تاريخنا المعاصر، اجتمعت فيها أشواق الداخل للتغيير والتحديث والنهضة مع طلبات الخارج وإلحاحه. وكانت المفارقة في المشهد أن حضرت الجماهير وغابت النخبة. 2 إنها لحظة الحقيقة التي نادراً ما تتوافر فيها إرادة الفعل والقدرة عليه ونبل المقاصد والسعي لها، وهي لحظة واجهناها في تاريخنا الحديث مرتين، الأولي مع محمد علي والثانية مع جمال عبد الناصر. وأحسب أن عثرات الطريق أبداً لم تكن بسبب الجماهير وإنما كانت جراء تسلط النخبة وترددها وسوء إدراكها لشروط اللحظة وطبيعة مصر، من خصوصية الموقع وتفرد الدور وحكمة التاريخ ووعي الجماهير وعمق التجربه. 3 عناوين المشهد مضللة باهتة، اختلطت فيها الفروع بالأصول واختلط فيها ما هو حال وطارئ مع ما يمكن إرجاؤه أو تأجيله، فكان أن ساوت اللحظة بين الغايات والأهداف والوسائل، فرفعت شعارات الديموقراطية وتداول السلطة وشفافية الانتخابات العامة والرئاسية باعتبارها كل المراد من رب العباد، في حين أن الديموقراطية وباقي العناوين المرفوعة ما هي إلا وسائل للحكم الرشيد وليست غايات في ذاتها أو أهداف ترتجي وحدها. وهنا فتحت أبواب المزايدة فبات يتحدث عن التغيير ويبشر به أغلب أولئك الذين ينبغي أن يشملهم التغيير، الذي ما أقبلت الجماهير علي طلبه إلا للخلاص منهم. 4 في المشهد ترتفع أصوات النخبة و انفعالاتها وربما خروجها عن النص أحياناً، ولا غرابة في ذلك، فهي وريثة حركة وطنية سياسية تشكلت أفكارها وتكون وعيها في مرحلة النضال الوطني ضد الاستعمار وأعوانه في القصور والأحزاب. وتشابكت مساراتها مع حركة التحرر العالمية، و تكونت أدبياتها في تخوين السلطة ومعاداتها طلباً للاستقلال والحرية. و بديهي ألا تكون للنخبة في مثل هذه الظروف أجندة للمستقبل أو التحديث والنهضة، إذ يكفيها في ذلك الحرية والاستقلال ولا أفق أو حلم أكثر من ذلك اللهم إلا ستر الله و اللطف في قضائه. إنها حركة وطنية شريفة مخلصة لكنها محكومة بتراث صعب وأدبيات حاكمة لم تستطع بعد الفكاك من أثرها. وهي إذ تمارس نفس الدور بنفس الآليات في عصر غير العصر و ظرف غير الظرف، فقد غابت طواعية وربما بحكم عثرات الطريق. 5 وهنا فلنعترف أن في المشهد رفاق مسيرة عسيرة وصورة حشد ومواكب، سبقت فيها خطوات الجماهير و خياراتها بالفعل أو بالصمت خطوات القوي السياسية، ذلك إذا كانت لدينا قوي سياسية بالفعل، فما نراه في المشهد شخصيات سياسية وعلي الطرفين آثرت السلامة وركنت للقعود واستسلمت للوضع القائم والوصفات الجاهزة: مع أو ضد، تهليل ومبايعة أو رفض ومقاطعة أو ارتجال للسياسة والحياة وقضايا الوطن. واستجد علينا من مراهقة السياسة عنف مرفوض وغير مبرر، إجترأ علي المحرمات وتجاوز ما اعتبرناه مقدساً في حياتنا اليومية. وجاءت فعلته النكراء علامة علي إفلاس سياسات قديمة وأساليب قديمة وأنماط قديمة فقدت وجودها علي المسرح السياسي فراحت تهذي وترتجل وكأنها شخصيات تبحث عن مؤلف كما في مسرح بيرانديللو. 6 في المشهد عفوية وإخلاص وفي المشهد وطنية وتجرد وفي المشهد استغلال للدين وإنتهازية ودوافع غير وطنية أيضا. كما أن في المشهد بطء السلحفاة و تكاسل الديناصور و أخطر ما في المشهد جماهير غاضبة و حشود حائرة. رهاننا علي وعي الجماهير وسلامة منطلقاتها وانحيازها لمصالح الوطن لا لمطالب فئوية إنتهازية أو مصالح طبقية ضيقة. رهاننا أن نحتوي كل هذه الاجتهادات و المشاركات لتصب جميعها في خانة المستقبل. رهاننا علي أهداف نبيلة تؤمن سلامة تداول السلطة وتفتح أفقاً للتغيير والإصلاح واستهداف الغد الأفضل، فنتوقف عن توجيه أسئلة الإهانة وأسئلة الإدانة ونحاول معاً بحث أسئلة التقدم وأسئلة المستقبل. ولا نساوم في ذلك علي هويتنا وأصالتنا واستقلال قرارنا. وعلينا أن نفسح في المقدمة مكاناً لجيل جديد و فكر جديد ورؤية جديدة تعتمد آليات العصر وإبداعاته وتفتح لنا آفاقاً جديدة للتقدم والنهضة، وتعيد صياغة عقد اجتماعي جديد أولي مفرداته الشراكة في الوطن، عقد يحقق المساواة وتكافؤ الفرص وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. فكر جديد يتحرك بنا من مجتمع الكفاف إلي مجتمع الكفاية والعدالة والوفرة. فكر يستعيد لمصر الدور والريادة بالفعل لا ببلاغة الصياغات وفارغ المضمون.ولن يكون ذلك إلا بالإحتكام لقانون العلم ومنهجه، بالخروج من القوالب الجامدة إلي رحابة العالم الواسع ومن الصراع إلي التضامن والمشاركة. فهذا الوطن نحن جميعا نملكه و نحن شركاء فيه. فلا ينبغي أن نضيع اللحظة في عناد السلطة وغياب النخبة والرهان علي صبر الجماهير. ولتكن البداية محاسبة الذين حولوا وزاراتهم وهيئاتهم من مسئولية عامة إلي أبعديات خاصة يغترفون منها ويجعلونها مشاعاً لذوي القربي والمؤلفة قلوبهم، ولتكن الحرب علي الفساد ورد الإعتبار لأصحاب الكفاءات والقدرات واستبعاد خدم المكاتب وعبيد السلطة الذين استوظفوهم مطايا لأغراض لاتناسب إلا أصحاب النفوس الضعيفة والمنبت الرخيص والذين من أجل أن يتطاول بنيانهم يهدمون صروح الوطن ويخربون مناراته. أما القصة القصيرة التي قرأتها فهي تحكي عن واحد من ذوي الطموح الذي لاتكافئه قدرات أو مؤهلات، دفعه شيطانه أن يتآمر علي معلمه وأستاذه ليتقرب إلي واحد من مماليك العصر وفاسديه من ذوي السلطة والتنفذ، والذي كان يوصيه بصلاة المغرب في المسجد، وكان يأمره بحضور درس الخطيب بعد الصلاة حتي يحين العشاء، ولما كرر المملوك ذلك الطلب، سأله صاحبنا عن السبب فأسر له بأنه علي علاقة بزوجة الإمام وأنه يطلب منه أن يشاغله بعد الصلاة فإذا ماهم الإمام بالعودة إلي البيت فليعطيه رنة حتي لايفاجأه في خيانته مع زوجته. إستمر صاحبنا ينفذ خطة المملوك ولي نعمته حتي توطدت علاقته بالإمام الذي سأله ذات يوم: أليس لك أخت أو قريبة فقد نويت الزواج، دهش صاحبنا وسأله ألست متزوجاً يامولانا؟ فأجابه لم أتزوج بعد وها أنا أبحث عن بنت الحلال، تتوالي فصول القصة ليكتشف صاحبنا أنه هو ذلك المغفل الذي خدع نفسه وفقد شرفه.