تربطني بالدكتور عبدالمنعم سعيد علاقة احترام وتقدير ومودة قديمة, وهو من الأصوات القليلة التي تناقش القضايا العامة بجرأة ووضوح وكثير من العقلانية. قد تختلف معه في بعض النتائج التي يتوصل إليها, ولكنك تتفق مع معظم المسلمات التي يبدأ بها والتي تستند إلي قيم الحرية والبرجماتية والابتعاد عن الشعارات الجوفاء التي لاتجد لها سندا من الواقع الملموس علي الأرض. وعندما أنهيت عملي في الأممالمتحدة وعدت إلي القاهرة في بداية عام2001, وكنت أكتب قبلها بشكل متقطع في الأهرام, اقترح الدكتور سعيد علي الأستاذ إبراهيم نافع رئيس التحرير آنذاك دعوتي للانضمام إلي كتاب الأهرام والكتابة فيه بشكل منتظم, وكان أن اتصل بي الأستاذ ابراهيم نافع مرحبا, ومن يومها وأنا أكتب كل أسبوعين في هذه الجريدة العريقة. ورغم هذه العلاقة الوطيدة أو لعله بسببها نشرت مقالا أو مقالتين منتقدا بعض الآراء التي طرحها الدكتور عبدالمنعم سعيد, وهي من المرات القليلة التي أتعرض فيها بالاسم لأحد الكتاب, ربما لما أحمله له من تقدير واعزاز. فالدكتور عبدالمنعم سعيد كاتب جاد, وينبغي أخذه بجدية, واليوم أعود إلي مناقشة مقال الدكتور سعيد في الأهرام عن تغيير مصر بالمصري بتاريخ16 نوفمبر2009. تناول الدكتور عبدالمنعم سعيد في هذا المقال أشكال تغيير المجتمعات, ورأي أن مصر هي من الدول التي تحققت تغييرات هامة في أوضاعها نتيجة للتراكم التاريخي في عناصر اقتصادية واجتماعية وثقافية متنوعة تجعل البلد ليس كما كان. فالتغيير هكذا يقول الدكتور سعيد يتم في مصر تدريجيا نتيجة لهذا التراكم, كما حدث بعد فتح قناة السويس وبناء مدن القناة أو بعد انشاء السد العالي وتغيير مجري النهر ومعه صعيد مصر. وهو يري أن شيئا من ذلك يجري الآن, وإن كان في الاتجاه المعاكس من الشمال إلي الجنوب حيث بات يحمل الطاقة التي تفجر الصناعة وتجعل للزراعة شكلا ومضمونا آخر, وتوزع النور والخدمات علي مدن وقري ونجوع لن تعول علي حالها مرة أخري. والمسألة ببساطة هي أن وزارة البترول أعدت إستراتيجية طويلة المدي واسعة النطاق, تركز علي مد خطوط الغاز لجميع أنحاء مصر من وحدات سكنية ومصانع وبعض محطات الكهرباء ومنتجعات سياحية وفندقية وتناول المقاول بكثير من التفصيل الآثار الإيجابية لهذا المشروع الكبير. والفكرة تبدو براقة, فالطاقة واستخداماتها المتنوعة كانت علي مدار التاريخ أحد أهم عناصر تطور البشرية. فالثورة الصناعية والتي نقلت البشرية إلي مرحلة جديدة من التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي إنما كانت إحدي نتائج اكتشاف الآلة البخارية نتيجة للتوسع في استخدام الفحم, ثم جاء تسخير الكهرباء والتوسع في استخدام البترول لينقل البشرية إلي مرحلة جديدة من التقدم الصناعي والحضاري. ولاشك أن اكتشاف الغاز في مصر والتوسع في استخدامه في الأغراض الصناعية والتنموية يمكن أن يشكل نقطة تحول هامة في تطوير المجتمع المصري. ولكن مشكلة الغاز وكذا البترول هي أنهما موارد محدودة ومؤقتة وغير متجددة. وعندما بدأت إنجلترا الغنية بمناجم الفحم ثورتها الصناعية, فقد قيل يومئذ إن هذه الجزيرة هي في الواقع صخرة من الفحم, وبالتالي لم تعان إنجلترا خلال ثورتها الصناعية والتي استمرت لأكثر من قرنين من أي نقص أو نفاد للفحم, وإن عانت من مشاكل تلويث البيئة الناتجة عن استخدامه كمصدر رئيسي للطاقة. وإذا كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية أول من استخدم البترول علي نطاق واسع, فإنها تعاني حاليا من نقص مواردها البترولية وتعتمد إلي حد بعيد علي وارداتها من البترول كندا وفنزويلا والمكسيك وغيرها. ولكنها طورت في نفس الوقت أيضا مصادر جديدة من الطاقة النووية كما تتمتع بموارد مائية كثيرة توفر لها طاقات كهربائية واسعة. ومع كل ماتتمتع به الولاياتالمتحدة من موارد متنوعة الطاقة, فقد وعد الرئيس أوباما في حملته الانتخابية بوضع برنامج لتطوير مصادر جديدة للطاقة المتجددة. كذلك فإن أوروبا, وهي تتمتع بمصادر هائلة من الفحم فضلا عن المساقط المائية وبالتالي الكهرباء, فإنها تحرص علي تطوير الطاقة النووية بل والطاقة الشمسية أيضا واستخدامها تحسبا لنقص موارد الطاقة من البترول والغاز في مستقبل غير بعيد. وإذا نظرنا إلي الصين التي تتمتع بمناجم كبيرة من الفحم فإنها تسعي للحصول علي مواطئ قدم في معظم الدول الأفريقية المنتجة للبترول. وأما الهند فإنها تتمتع بمساقط مياه متعددة تمكنها من توليد الكهرباء. وهكذا فالعالم وهو يضع خططه للإفادة لكل مصادر الطاقة المتاحة له محليا فإنه يعمل في نفس الوقت علي تطوير مصادر جديدة. فالهم الأكبر للعالم الآن هو التحضير لعصر قادم سوف تقل فيه الموارد المتاحة من البترول والغاز. فأين مصر من موارد الطاقة المتاحة لها؟. مصر دولة فقيرة في الطاقة. فهل لاتتمتع بموارد من الفحم كما هو الحال بالنسبة لمعظم الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة والصين. كذلك, فمصر لاتتمتع بمساقط مياه كما هو حال الهند أو كندا يمكن أن تولد لها الكهرباء. ولحسن الحظ تتمتع مصر حاليا بقدر ضئيل من مصادر البترول وبموارد أكثر قليلا من الغاز. ولكنها تظل بلدا فقيرا في موارد الطاقة, ولايمكن أن تقارن مثلا بدول الخليج مثل السعودية أو الكويت أو العراق بالنسبة للبترول, أو مثل قطر بالنسبة للغاز. وهكذا, فهناك حقيقتان لاأعتقد أنه يقوم عليهما أي خلاف أما الحقيقة الأولي فهي أن العالم يواجه في مجموعه أزمة خانقة للطاقة, وفي خلال فترة تتراوح بين عقدين أو ثلاثة سيبدأ العد التنازلي لإنتاج النفط والغاز في العالم. وأما الحقيقة الثانية فهي أن مصر من بين دول العالم لاتتمتع بأية موارد من الطاقة التقليدية مثل الفحم أو الكهرباء( مساقط المياه) ويكاد يكون مصدرها الوحيد من الطاقة هو النفط والغاز وكلاهما محدود الكمية ومعرض للنفاد في خلال فترة قصيرة, وإدراكا لهذه المشكلة أعلنت مصر عن برنامج طموح لاستخدام الطاقة النووية. وإذا كانت مصر تنوي الآن تنفيذ مشروعات جديدة لاستغلال الغاز في مصر, فإن السؤال الجوهري يصبح: ألا يدفع ذلك للتساؤل عن جدوي تصدير الغاز, وهو يكاد يكون المصدر الوحيد المتوافر قليلا في مصر. لقد أعلنت وزارة البترول منذ فترة ليست بعيدة أن الاحتياطي من الغاز يكفي لثلاثين أو أربعين عاما قادمة( ماأعلن في ذلك الوقت2006 هو أن لدينا من الاحتياطيات مايكفي لأكثر من34 عاما). وهي فترة قصيرة في عمر الأمم. لاشك أن التفكير في استغلال الغاز المصري في مشروعات للتنمية في جنوبالوادي في الصعيد في الصناعة والسياحة والإسكان أمر جيد يستحق التقدير. ولكن أليس من المنطقي أن نبدأ بإعادة النظر في سياستنا لتصدير الغاز.وكانت مصر قد أعلنت منذ عدة سنوات2006 عن افتتاح أكبر مصنع لتسييل الغاز وتصديره. ولازلت أذكر العنوان الرئيسي للأهرام آنذاك مصر تصبح سادس أكبر مصدر للغاز في العالم. وقد كتبت مقالات تعليقا علي ذلك علي صحفات هذه الجريدة بعنوان من باب أولي الاحتفاظ بالغاز الطبيعي( أكتوبر2006), منبها إلي خطورة التوسع في تصدير الغاز في دولة كمصر فقيرة في مصادر الطاقة. وقد اضفت في ذلك المقال أن خطورة التوسع في تصدير الغاز الطبيعي لاتهدد فقط مستقبل الأجيال القادمة من مواردنا المحدودة والقليلة من الطاقة, وإنما تساعد علي إعطاء وهم بتحسن الأوضاع الاقتصادية وذلك بزيادة رقم الصادرات, وبالتالي حجم الناتج القومي بمايعطي الانطباع بأننا في أوضاع افضل نسبيا مما يدعم اتجاهات الاستهلاك في بلد فقير. فالحقيقة أن تصدير الغاز وكما هو الحال بالنسبة للبترول أيضا, إنما هو استهلاك لمصدر من الثروة الطبيعية النافدة وغير المتجددة. فالأمر أشبه بالوارث الذي يبدد ميراثه للإنفاق علي ملذاته. وهي المشكلة التي وقعت فيها معظم الدول النفطية والمعروفة باسم الاقتصادات الربعية, وحيث يتحقق الرخاء الظاهري ليس مقابل زيادة في القدرات الانتاجية وإنما مقابل التصرف في الموارد الطبيعية الموروثة. وإذا كان عذرالدول النفطية الخليجية هي أنها تتمتع بموارد هائلة للنفط والغاز وأنها سوف تستمر لسنوات طويلة قد تبلغ القرن من الزمان, فإن الأمر بالنسبة لمصر مختلف تماما حيث لاتتمتع إلا بموارد قليلة تكفيها بالكاد لسنوات قليلة لاتزيد علي عقدين أو ثلاثة. عائدات البترول وكذا الغاز ليست دخولا بالمعني الدقيق وإنما هي استهلاك للثروة. فالدخل متجدد وبالتالي قابل للاستهلاك, أما الثروة فإنها غير متجددة ومن ثم تحتاج إلي المحافظة والرعاية. حسن جدا أن تضع وزارة البترول برنامجا طموحا لاستغلال الغاز المصري في تحسين أحوال الصعيد وغيره من أنحاء القطر. ولاشك أن وضع هذا المورد الطبيعي لرفع مستوي كفاءة المصريين وقدرتهم علي زيادة الإنتاج لهو أمر يستحق الثناء والتقدير. ولكن كل هذا يتوقف علي صيانة مانملكه من مصادر الغاز الطبيعي. ومن الطبيعي. أن تبدأ الخطوة الأولي بحماية هذه الثروة وعدم التصرف فيها بالتصدير, وبما يؤدي إلي حرمان الأجيال القادمة من أية مصادر كافية للطاقة. تغيير مصر بالمصري باستخدام الغاز لصالح المواطنين أمر طيب, ولكن الخطوة الأولي تبدأ بحماية هذه الثروة المصرية( الغاز) حتي يمكن الإفادة من مشروعات الغاز لأطول فترة ممكنة. وسوف تكون كارثة إذا استثمرنا في بنية واسعة لنقل واستخدام الغاز الطبيعي علي اتساع القطر, لنكتشف أننا أهدرنا معظم مواردنا القليلة المتاحة منه بتصديرها للخارج. والله أعلم. *نقلا عن صحيفة الاهرام