نقلاً عن : جريدة الأهرام تقترب حوارات التعديلات الدستورية في السباق الديمقراطي من المنعطف قبل الأخير ببدء مرحلة الصياغة النهائية لما انتهت إليه مناقشات البرلمان بمجلسيه الشعب والشوري, والحوار العام عبر جلسات الاستماع في الشارع السياسي, تمهيدا لعرضها علي مجلس الشعب, ثم طرحها للاستفتاء العام. وقبل الحديث عن ملامح التعديلات التي انتهت إليها مناقشات الأشهر الماضية داخل البرلمان وخارجه, فإن الحقيقة التي تفرض نفسها هي, أن تجربة الحوار الذي تشارك فيه مختلف القوي السياسية في مصر سوف تتجاوز بتأثيراتها ومغزاها النصوص الدستورية المعدلة بعد الاستفتاء عليها, فلقد أصبح مهما أن نقف عند مغزي الحوار الموسع الذي استغرق من اهتمام السياسيين وشرائح واسعة من المجتمع المصري شهورا عديدة لنتأمل الناتج النهائي لتلك التجربة, وتأثيراتها في مسيرة الديمقراطية, التي لن تكون التعديلات الدستورية حلقتها الأخيرة بكل تأكيد. وهذه التجربة في حاجة إلي تسليط الضوء عليها بهدف ترسيخها, واستخلاص الكثير من الدروس التي تفيدنا في استكمال مسيرة العمل السياسي, وأشير فيما يلي إلي بعض ملامحها. أولا: إن طرح هذه التعديلات للحوار والتعديل هو نتيجة تجربة تمثل تطورا له مغزاه في الحياة السياسية المصرية. فلقد جاء طلب الرئيس حسني مبارك في خطابه أمام مجلسي الشعب والشوري في نهاية العام الماضي تعديل أربع وثلاثين مادة من الدستور تنفيذا لبرنامجه الانتخابي, الذي وعد فيه بالكثير من الإصلاحات السياسية والدستورية, وكان انتخاب الرئيس علي أساس هذا البرنامج تجربة جديدة ومتطورة أدت إلي بعث الحوار الديمقراطي وصولا إلي إعادة صياغة هذه المواد من الدستور. ثانيا: ربما كانت هذه هي المرة الأولي في تاريخ الحياة السياسية المصرية التي ينشأ فيها مثل هذا الحوار حول وضع دستور أو تعديله. فالدساتير السابقة وتعديلاتها لم تكن نتاج حوار موسع علي النحو الذي نشهده في مصر, منذ أن فجر الرئيس طلب تعديل المادة76 من الدستور قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة, وخلال برنامجه الانتخابي, الذي أصبح جزءا من ضمير الوطن كبرنامج عمل للإصلاح بكل مشتملاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد أثبتت تجربة الأشهر الأخيرة أن المشاركة العامة في الحوار قد تجاوزت أي حوار سياسي مماثل, وهو ما يعني اهتماما غير مسبوق بشأن الدستور, والشأن السياسي بوجه عام, وهذه المشاركة سوف تنمو وتزداد, ولن تتراجع بما يعنيه ذلك من فرص كبيرة أمام النمو المطرد في مسيرة الديمقراطية. فلقد اكتسبت المشاركة بفعل ذلك الحوار قوة دفع جديدة لابد من الحفاظ عليها وتعظيمها, حيث لاتتطور الديمقراطية في مجتمع تزداد فيه نسبة العزوف عن الشأن السياسي. ثالثا: إن الحوار الأخير وضع الدستور في الضمير المجتمعي موضعا غير مسبوق وهو أمر له أهميته. حيث أصبحت شرائح واسعة من المجتمع اليوم علي وعي بمكانة الدستور وأهميته وعلاقته بمجمل الحياة السياسية والاجتماعية. وهي علاقة كانت شبه غائبة من قبل, وهذا الوعي الجديد بموقع الدستور سوف يمثل ضمانا غير مسبوق لاحترامه, وتفعيل وجوده والحفاظ عليه وحمايته, وهي خطوة ضرورية لتطور الديمقراطية أيضا. فحين تتحول مواد الدستور إلي واقع حي معاش, فإن ذلك يعني أن المجتمع قد توافق علي مرجعية تكتسب قوتها, ليس من نصوصها فحسب, وإنما أيضا من الوعي بها واحترامها. فما أكثر النصوص الدستورية التي أضاعت حريات الإنسان في عبارات بليغة براقة, ولكنها تفتقر إلي الوجود الحي في ضمير الشعوب. رابعا: إن الحوار حول التعديلات الدستورية تجاوز في بعض جوانبه المواد المطروحة للتعديل, وتطرق إلي كثير من القضايا التي تعبر عن رغبة المجتمع بتياراته المختلفة في توسيع دائرة الحوار, وأيضا دائرة التعديلات, وهي في مجملها ظاهرة صحية بغض النظر عن المبالغة والشطط في بعض الأطروحات. فلقد استوعب الحوار كل الآراء التي ماكان لها أن تظهر لولا طرح مواد الدستور للتعديل. خامسا: بالرغم من المساجلات والاختلافات والانفعالات والمشاحنات بشأن التعديلات المطروحة, فإننا خضنا تجربة الحوار واقتربنا شيئا فشيئا من أهمية أن نشارك وأن نتحاور وأن نتفق ونختلف, وأن نضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار, وأن نمضي نحوها بصرف النظر عن صياح أقلية مارقة أو حزبية ضيقة. ولابد ان نتعلم كيف نحترم رأي الأغلبية ورأي الشعب حين يتوجه للاستفتاء علي الدستور, وهو مايزيد من وعينا بإمكانات مصر وقدرتها المتزايدة علي مواجهة المشكلات التي تكتنف مسيرتها. ولن نتوقف أمام كلمات المزايدين والعاجزين الذين يهيلون التراب علي كل شيء. فهم أقل من أن يوقفوا مسيرتنا القوية للتغيير والتطور والنمو. وسنجعل العمل سبيلا لكشف عجزهم وقلة حيلتهم. سادسا: إن الحوار تجاوز بالتفكير السياسي والاجتماعي قضية العلاقة بين الدين والنشاط السياسي, التي ظلت من القضايا المسكوت عنها دستوريا وتشريعيا فترة طويلة, بما يكشف لكل عقل مستنير قدرة المجتمع المصري الآن علي تصحيح مسيرته والسير في الاتجاه الصحيح, فهي دليل ناصع علي العافية السياسية والمجتمعية وليس عجزا أو ضعفا, كما تصوره العقول المريضة التي يجب كشفها وتعريتها أمام المجتمع كله لكي تزداد قدرتنا علي التطور والنمو, ولاشك أن ما تحقق بشأنها في الحوار العام يمثل إنجازا حقيقيا في مسيرة الفكر السياسي المصري. فقد أظهر المتحاورون حولها قدرا من الصراحة والوضوح ومواجهة قوي التكفير التي تربصت بكل حديث في هذا الشأن, وألجمت الفقهاء والمفكرين علي السواء زمنا ليس بالقليل. وسوف تبقي دروس الحوار ماثلة في ضميرنا الوطني, ونستطيع أن نبقيها حية, باعتبارها ضرورة لعشرات الممارسات الديمقراطية المقبلة وعلينا أن نبني فوق ما تحقق منها الكثير. فنحن لاندعي أنها جاءت مكتملة غير منقوصة, ولكنها تجربة فاعلة وجادة ورائدة في حياتنا السياسية المعاصرة تحتاج إلي المزيد من الدراسة من أجل ترسيخ مبادئها وتطويرها, وعلينا أيضا الإيمان بأن الحوار البناء ركيزة أساسية في التطور الديمقراطي, وسوف يظل العقل الواعي والضمير الحي يتذكر ويدرك أنها خطوات لبناء مصر المعاصرة القوية التي منحنا إياها الرئيس حسني مبارك, بحكم إدراكه المسئولية الكبري التي يتحملها عنا جميعا. ومع بدء عمل لجنة الصياغة النهائية تحقق التوافق الوطني علي جميع التعديلات المطروحة, باستثناء ثلاث قضايا مازال الحوار متواصلا بشأنها, وقد تعددت حولها الآراء وتشعبت الاختلافات وهذه القضايا هي: * قضية الإشراف القضائي علي الانتخابات التي كانت ممارساتها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة مثيرة للجدل. * المادة76 الخاصة بآليات انتخاب رئيس الدولة. * قضية الحريات العامة في ضوء إنهاء العمل بقانون الطوارئ واستحداث قانون جديد لمكافحة الإرهاب. وليس هناك مجال للتشكيك في نيات أي من أطراف الحوار بشأن الاختلاف حول هذه القضايا.فالمصريون جميعا حريصون علي حماية مجتمعهم من عدوان الإرهاب, واتخاذ التدابير التي تكفل محاصرته وتجفيف منابعه, وهم حريصون أيضا علي أن تأتي الانتخابات معبرة عن رأي الناخبين دون تدخل من أي قوة أيا كانت, وحريصون علي إعطاء فرصة الاختيار كاملة للشعب في تقرير من يتولي مسئولية الحكم فيهم. ويبدو الاختلاف في وسائل ضمان ذلك, وهي أمور تحكمها اعتبارات وتعقيدات كثيرة في ضوء الظروف المحلية والإقليمية المحيطة بنا, فليس الإشراف القضائي هو الضمان الوحيد لإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
فهناك ظروف كثيرة تحول دون إدارة القضاة العملية الانتخابية بتفاصيلها التي يتحدث عنها البعض. وفي تجارب دول ديمقراطية كثيرة ما يساعدنا علي حماية الانتخابات من الظواهر السلبية التي تلازم الانتخابات, مثل البلطجة والشللية والرشاوي الانتخابية, وليس استبدال قانون مكافحة الإرهاب بقانون الطوارئ تقييدا للحريات العامة أو عدوانا عليها, ولكن الظروف الموضوعية الراهنة تفرض وجود قانون يكفل حماية المجتمع من ظاهرة مازالت قائمة بيننا ومن حولنا, فالارهاب مازال يتربص بأمننا وسلامة مجتمعنا. ومن الأرجح أن يتوجه النقاش إلي الإجراءات التي تمنع إساءة استخدام قانون الارهاب والتوسع فيه إلي ما يتجاوز القضايا المتعلقة به, وكذلك فإن وضع شروط للانتخابات الرئاسية ليس تقييدا لحق البعض في الترشيح. إن المشكلة الحقيقية التي تواجه التعديلات الدستورية تكمن في محاولات البعض تسميم المناخ المحيط بها ونشر الإحباط واليأس حول جدواها, بهدف الدفع بالكثير من فئات المجتمع بعيدا عن المشاركة أو التفاعل مع هذه الخطوة المهمة, بما يعنيه ذلك من تقويض الجهود التي ينبغي بذلها في مواجهة القوي التي تريد الارتداد بالمجتمع إلي الوراء, وتكريس الأفكار القديمة التي تخدم مصالحها والاستثمار الكامل للمشاعر الدينية في سبيل أهدافها. وبعيدا عن هذه القضايا الثلاث تطرق الحوار إلي عدد من المواد التي لم تكن مطروحة للتعديل, وعلي رأسها المادة الثانية من الدستور الخاصة بالنص علي دين الدولة الرسمي ومرجعية الشريعة الإسلامية. والحوار حول هذه المادة من الدستور يعكس حراكا فكريا وثقافيا ودينيا صحيحا ولازما للمجتمع. فقد أدي الحوار حول هذه المادة إلي طرح كثير من الاجتهادات والآراء من جميع التيارات, وأظهر إلي سطح الحياة الفكرية والسياسية رؤي لم تكن تطرح علي هذا النحو من قبل. فالذين ينادون بإسقاط تلك المادة من الدستور يبدو أنهم خضعوا في مطالبهم لظروف سائدة في المحيط العربي والإسلامي, واعتبروا أن بقاء النص الدستوري يمهد للدولة الدينية, ويدعم حجج الذين يريدون ممارسة السياسة من باب الدين, واستدعي هؤلاء التجربة الأوروبية وتطورها التاريخي. ولكنهم يغفلون حقيقة أنه ليس هناك ما يبرر إسقاط هذه المادة من الدستور, حيث لاوجود لما يطرحونه من تخوفات بشأن المواطنة والمساواة بين فئات المجتمع. فعبر التاريخ الإسلامي تحققت فكرة المساواة بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب فيما يتعلق بالحقوق الخاصة. وكذلك فإن في الفقه متسعا لقضية الولاية العامة, في ضوء التطورات التي طرأت علي الجماعة السياسية في المجتمعات الإسلامية والظروف التي مرت بها, وأصبح من حق المجتمع أن يقيم واقعه السياسي علي هذا الاساس. كما أن استدعاء التجربة الأوروبية هو استدعاء خاطئ من أساسه. فليس في الإسلام ما يمنح فردا أو جماعة سلطة احتكار تفسير الدين أو التعبير عنه. كما أن تراث الفقه الإسلامي أوسع كثيرا من أن يختزل في رأي واحد أو تفسير مقدس. وكذلك فإن الإسلام, وهو دين الأغلبية من المصريين لم يأت إلي أرضهم بنص دستوري ولن يذهب عنها بنص أو بإسقاط آخر. ثم إن النص علي دين الدولة في الدستور أصبح من الثوابت في الدساتير المصرية علي اختلاف العهود التي صدرت فيها, بل وحظي ذلك النص بقبول وترحيب غير المسلمين في وقت لم تكن جذور التعصب قد تسللت بعد إلي المجتمع فتعامل الجميع مع النص بروح من التسامح والسماحة. وفي نهاية المقال اورد أ . اسامة سرايا :لقد اقتربنا من نهاية حوار طويل حول تعديل الدستور, وسوف يقول الشعب كلمته فيما انتهي إليه حوار السياسيين والفقهاء والمفكرين, ولكن دروس هذا الحوار لابد أن تستمر وأن تتوجه مسيرة النقاش حول القضايا المختلفة التي تتصل بالشأن العام إلي ما يمكننا من الحفاظ علي قوة الدفع الديمقراطي في المستقبل