تمر العولمة الاقتصادية الآن في أزمة بالغة العمق بعد انهيار المؤسسات والبنوك الرأسمالية في الولاياتالمتحدةالأمريكية ولم تقف حدود الأزمة عند الحدود الأمريكية ولكنها تجاوزتها إلي الدول الأوروبية والدول الآسيوية والدول العربية وأثرت سلبا علي اقتصاداتها. والواقع كما أكدنا أكثر من مرة أنها ليست مجرد أزمة مالية يمكن الخروج منها عن طريق ضخ الحكومة الأمريكية مليارات الدولارات في شرايين الاقتصاد التي انفجرت مما يؤدي الي تعافي النظام الاقتصادي وذلك لأنها في العمق أزمة اقتصادية بمعني سقوط النموذج المعرفي للرأسمالية المعولمة والتي تحت شعارات الليبرالية الجديدة التي أرادت أن تكف يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد بصورة مطلقة, وتصفية مؤسسات القطاع العام, وترك المجال الاقتصادي بالكامل للقطاع الخاص. غير أن اضطرار الدولة الأمريكية الي ضخ ملايين الدولارات لإنقاذ المؤسسات والبنوك الرأسمالية من الانهيار الكامل, يدل علي أن نموذج العولمة الرأسمالية بالتعريف الذي اشرنا إليه قد سقط. ومعني ذلك أنه قد نشأت حاجة معرفية واقتصادية وسياسية لصياغة نموذج اقتصادي جديد يؤلف تأليفا خلاقا بين حق الدولة في الرقابة وحرية السوق في الانطلاق. هل يمكن صياغة هذا النموذج الجديد حقا, أم أن تناقضات رئيسية بين الدولة والسوق لايمكن تجاوزها؟ سؤال نتركه للمستقبل علي المدي المتوسط, لكي نعرف عمق القدرات المعرفية لدي كبار فلاسفة الاقتصاد وزعماء السياسة في مجال الإبداع الفكري والخيال السياسي. وغني عن البيان أن وضع المجتمعات المتقدمة من زاوية قدرتها علي استقبال موجات العولمة المتدفقة, أفضل بكثير من وضع المجتمعات النامية مثل المجتمع العربي الراهن. ويرد ذلك الي أن المجتمعات المتقدمة قد استكملت مسيرة تطورها السياسي منذ قرون من خلال بناء نظم ديموقراطية متكاملة, بالإضافة الي نجاحها في تأسيس المجتمعات الصناعية التي تطورت في العقود الأخيرة, بحكم تنامي الثورة العلمية لكي تصبح مجتمعات تكنولوجية فائقة التطور, وقادرة علي سد احتياجات الجماهير بكفاءة. ومن هنا يصح التساؤل عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة في المجتمع العربي الراهن, لكي نعرف قدرته علي استقبال موجات العولمة المتدفقة. فهذا الكتاب يتضمن رؤية نقدية متكاملة لاستقبال العولمة في المجتمع العربي المعاصر, من خلال تحليل كل من الخطاب العربي الذي تناول العولمة تأييدا أو رفضا, بالإضافة إلي الدراسة النقدية للوضع العربي المعاصر. وقد حاول الدكتور دياب رسم الملامح الرئيسية للمشهد السياسي وللوضع الاقتصادي وللإطار الثقافي العربي, حتي يحدد الظروف التي تم فيها التفاعل بين العولمة باعتبارها عملية تاريخية, وبين المجتمع العربي بمختلف أنساقه. وهو في رسمه ملامح المشهد السياسي العربي يبدأ بالتركيز علي تنامي المخاطر التي باتت تهدد مجمل النظام الاقليمي العربي الذي دخل كما يقرر مرحلة من الضعف والصراعات الداخلية والتفكك بعد حرب الخليج الثانية. والواقع أن الانطلاق من النظام الإقليمي العربي باعتباره وحدة تحليل اساسية في فهم المشهد السياسي العربي, اقتراب صحيح من المشكلة. وذلك لأن العولمة بحكم التحديات الاقتصادية التي تنطوي عليها دفعت بعديد من الدول الي الانخراط في اتحادات اقليمية, اشهرها الاتحاد الأوروبي والنافتا في أمريكا اللاتينية, والآسيان في آسيا. هذه الاتحادات نبعت عن فهم عميق لديناميات وصور الاقتصاد المعولم, والذي يقتضي بناء تكتلات دولية من شأنها تعظيم الفوائد الاقتصادية لأعضائها من خلال التكامل الاقتصادي وتجنب المنافسات العقيمة الضارة. وعلي ذلك كان علي المجتمع العربي أن يعد نفسه لمرحلة العولمة من خلال تجديد النظام لاقليمي في منطلقاته وأدواته بعد حرب الخليج الثانية. صحيح أن الغزو العراقي للكويت قد أدي إلي نسف مفهوم الأمن القومي العربي لأنه بحسب التعريف كان يعني أن مصادر التهديد تأتي من أطراف غير عربية في مقدمتها إسرائيل. ولذلك حين أتي التهديد لدولة الكويت المستقلة من دولة عربية أخري هي العراق, كان هذا في حد ذاته إلغاء عمليا لمذهب الأمن القومي العربي. ولاشك أن النظام الإقليمي العربي يحتاج الي تجديد مفاهيمه ليستوعب موجات العولمة من ناحية, ولكي يواجه المفاهيم الأخري المنافسة له من ناحية أخري, وأبرزها مفهوم الشرق الأوسط الجديد الذي وضع لكي يضع إسرائيل في قلب النظام الإقليمي العربي. وإذا كانت كل من مصر والأردن سبق لهما إبرام معاهدات صلح مع الدولة الإسرائيلية, إلا أن باقي الدول لم تخط هذه الخطوات حتي الآن. ومن هنا لابد للنظام الإقليمي العربي الجديد أن يوجه طاقاته أولا لحل المشكلة الفلسطينية, والتي تتمثل في حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة, قبل أن يعيد صياغة توجهاته إزاء القوي الصاعدة في الإقليم مثل تركيا وإيران. وقد كانت خطوة إيجابية حقا المبادرة العربية التي صاغتها المملكة العربية السعودية لحل المشكلة الفلسطينية, وحصلت علي موافقة مؤتمر القمة العربية عليها, وأصبحت من بعد أداة أساسية للتفاوض بالرغم من رفض إسرائيل لها. غير أن هذه المحاولة تؤكد قدرة النظام الإقليمي العربي علي المبادرة في عالم دولي زاخر بالصراعات. غير أن النظام الإقليمي العربي ممثلا في القادة العرب لم يستطع تحديد موقف واضح من دور إيران في الإقليم, فهناك دول عربية تتحفظ لأسباب شتي علي دور إيران, في حين أن دولا أخري أظهرت حرصها علي إقامة تعاون وثيق معها, ربما تجنبا للمخاطر المحتملة من أي خصام مستقبلي. وإذا أردنا في الواقع أن نحدد شعارات العولمة السياسية الأساسية لقلنا إنها الديمقراطية, والتعددية, واحترام حقوق الإنسان. وكل شعار من هذه الشعارات يثير مشكلات كبري نظرية وتطبيقية. فالديمقراطية العربية تواجه بأزمة كبري, لعل أهم اسبابها وهن التراث الديمقراطي العربي من ناحية, وانقطاعه التاريخي بحكم قيام الانقلابات العسكرية من ناحية ثانية, وعدم استجابة النظم السياسة العربية الراهنة لنداءات التحول الديمقراطي من جهة ثالثة. ومما لاشك أن وهن التراث الديمقراطي العربي يرد إلي اسباب تاريخية معروفة, أهمها ما أطلق عليه الكواكبي من قبل طبائع الاستبداد التي مورست عبر قرون طويلة في الدول الاسلامية في المشرق والمغرب بالرغم من أن الاسلام حض علي الشوري, غير أنه في التطبيق لم تر الشوري النور, ولم تتحول الي نظام سياسي له ملامح محددة. غير أن السبب الآخر الهام في وهن التراث الديمقراطي العربي, هو أن الدول العربية في مجملها احتلتها الدول الأوروبية الغربية, وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا, وفرضت عليها بحكم الاحتلال والاستعمار الاستيطاني الفرنسي والصهيوني للجزائر وفلسطين, قيودا سياسية واقتصادية وثقافية منعت تطور المجتمعات العربية عموما, وعوقت بشكل متعمد تطورها السياسي وانتقالها من الشمولية والسلطوية الي الديمقراطية. ولدينا ما يؤيد ذلك في السجلات التاريخية الحديثة للمجتمع العربي, الذي شهد بواكير نظم سياسية ديمقراطية في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات في بلاد عربية شتي مثل العراق ومصر وتونس والمغرب والسودان, إلا أن هذه النظم جميعا اجهضت من خلال تآمر سلطات الاحتلال مع بعض النخب السياسية العربية, لمنع قيام حكم ديمقراطي أصيل. ويمكن القول أن النظم السياسية العربية علي اختلاف انماطها تواجه اليوم بتحديات شعارات العولمة الثلاث, وهي الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. بعبارة أخري هذه النظم السياسية تحت ضغوط الداخل العربي والتي تتمثل في مطالبات الساسة المعارضين والمثقفين ومؤسسات المجتمع المدني بضرورة القيام بتحول ديمقراطي أصيل بنقل هذه المجتمعات الي المجال الديمقراطي, وبتأثير الضغوط الخارجية مطالبة بالاستجابة غير أن هناك مقاومات عنيدة للتغيير في عديد من البلاد العربية من قبل أهل السلطة, لأن التغيير الديمقراطي كفيل بالتأثير علي أوضاعهم الاقتصادية وعلي نفوذهم السياسي, ومكانتهم الاجتماعية. هذا هو التحدي الرئيسي الذي تفرضه العولمة علي المجتمع العربي المعاصر فيما يتعلق بعملية التحول الديمقراطي. غير أن هناك تحديات أخري تتمثل في أهمية احترام التعددية, مما يثير مشكلة الأقليات غير العربية, وضرورة احترام حقوق الإنسان, مما يؤكد أولوية تطبيق مبدأ سيادة القانون. الاهرام*