هل كان مجرد صدفة أن يزور بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة المتطرفة في إسرائيل العاصمة الألمانية برلين في نفس اليوم الذي بلغ فيه جلعاد شاليط سن ال23؟. وشاليط هو جندي إسرائيلي أسره مقاتلو حماس قبل ثلاثة أعوام وفشلت محاولات الاستخبارات الإسرائيلية وحرب شنها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة في العثور عليه. منذ وقت تجري مفاوضات بين إسرائيل وحماس عن طريق وسيطين دوليين: مصر وتحديدا عمر سليمان رئيس المخابرات المصرية، وعميل تابع للمخابرات الألمانية (بي أن دي) صاحب خبرة طويلة في التوسط بين العرب والإسرائيليين. لا تبخل الحكومة الألمانية في جهودها طالما الأمر يتعلق قبل كل شيء بإسرائيل. ذلك أن ألمانيا نتيجة لعقدة الذنب تشعر أنها مسؤولة أمام التاريخ عن أمن إسرائيل وشعبها. رغم المحرقة كانت أهم من أسس الجيش الإسرائيلي وساهمت التعويضات الطائلة التي تعهدت بدفعها في تعزيز وترسيخ الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. وهي اليوم بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية أهم ممول للدولة العبرية. وهي في نفس الوقت تقدم معونات للفلسطينيين توصف بأنها عبارة عن فستق مقارنة مع ما تقدمه لإسرائيل. كذلك تلتزم الصمت حيال جرائم إسرائيل وممارساتها التعسفية ضد الفلسطينيين ومن الأمثلة على ذلك صمت الحكومة الألمانية على العربدة الإسرائيلية في حرب غزة ثم سكوت الإعلام الألماني على فضيحة المتاجرة بأعضاء بشرية تعود لفلسطينيين قتلهم الجيش الإسرائيلي والتي فجرتها صحيفة سويدية. يساعد ألمانيا في جهودها كونها تحظى بمصداقية في الشرق الأوسط أفضل من البريطانيين والفرنسيين وطبعا الأمريكيين. إذ أنها على العكس من الآخرين لم تستعمر دولة واحدة في المنطقة. لكن هناك أيضا ما يؤهلها للعب دور وساطة بين العرب وإسرائيل كونها نجحت في السابق في التوسط لعمليات تبادل أسرى بين حزب الله في لبنان وإسرائيل. وقالت الصحف الإسرائيلية قبل أيام إن رئيس الوزراء الإسرائيلي شكر المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على الجهود التي تقوم بها السلطات الألمانية لغرض الإفراج عن الجندي شاليط. هذا بالتحديد ما لم تذكره الصحف الألمانية خلال زيارة نتنياهو إلى برلين بسبب الحظر الذي فرضته على نفسها في عدم نشر معلومات عن المفاوضات السرية الدائرة منذ وقت بين حماس وإسرائيل عن طريق القاهرةوبرلين. بعد يوم واحد استشاط نتنياهو غيظا عندما بلغه أن وسائل إعلام في ألمانيا وإسرائيل والعالم العربي نشرت تفاصيل عن المفاوضات السرية. مما لا شك فيه أن كل طرف يرغب في تحقيق مكاسب سياسية من وراء تسليط الأضواء على دوره في هذه المفاوضات في حال أنها تحققت وفقا للتقارير التي تنشر هذه الأيام وتزعج نتنياهو لكونها تشير إلى أن حكومته المتطرفة تتفاوض مع حماس ولو عبر وسطاء. وكشفت مجلة(دير شبيجل) الألمانية في عددها الأخير أن الآمال زادت باحتمال تحقيق صفقة تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل وتحدثت لأول مرة عن دور مركزي يقوم به عميل في المخابرات الألمانية يتمتع بخبرة واسعة في الشرق الأوسط ويجيد التحدث إلى جانب الإنجليزية باللغة العربية علاوة على أنه يحظى بقبول عند حماس والإسرائيليين. استنادا إلى مصادر دبلوماسية ألمانية دخلت المخابرات الألمانية على الخط بتكليف من الحكومة الألمانية بعد أن طلبت منها إسرائيل التوسط مع حماس رغم عدم وجود اتصالات بين حماس وبرلين. إذ أن المستشارة ميركل هي التي سعت إلى مقاطعة حكومة حماس بعد وقت قليل على فوزها في الانتخابات العامة الفلسطينية واشترطت عليها مقابل الاعتراف بها أن تعترف أولا بإسرائيل ثم وقف عملياتها العسكرية ضدها والالتزام بالاتفاقيات المعقودة بين منظمة التحرير الفلسطينية والدولة العبرية. الهدف الذي وضعه الوسيط الألماني تحقيق عملية جديدة لتبادل الأسرى في المنطقة بأن يجري الإفراج عن شاليط المحتجز منذ يونيو عام 2006 مقابل أن تفرج إسرائيل عن 450 معتقلا فلسطينيا تريد إسرائيل منع عودة 120 منهم إلى قطاع غزة أو الضفة الغربية وإبعادهم إلى الخارج حيث من البلدان التي يجري الحديث عنها لتأويهم السودان وسورية وبلدان في شمال أوروبا لم يتحدد ما إذا ألمانيا بينها. والجدير بالذكر أن ألمانيا ساعدت إسرائيل في السابق في موضوع تخفيف العبء عنها إذا قبلت استضافت نحو أربعمائة من جنود ما يسمى جيش لبنان الحر الذي أسسته إسرائيل في جنوب لبنان بعد احتلالها له في نهاية عقد السبعينيات ووزعتهم على مختلف المناطق الألمانية ولا يعرف أحد شيئا عنهم. وكان هؤلاء قد فروا إلى إسرائيل بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي في صيف عام 2000 من جنوب لبنان لتجنب الخسائر على أيدي المقاومة اللبنانية لكنهم لم يطيقوا العيش في إسرائيل بسبب العنصرية والاضطهاد. القضية ليست مجرد صفقة جديدة لتبادل الأسرى، وإنما تدور حول السياسة ومستقبل المنطقة إذ يعبر بعض المحللين السياسيين في برلين أن نجاح الصفقة قد تقود لإحياء عملية السلام التي أظهرت حكومة نتنياهو ووزير خارجيته أفيجادور ليبرمان عدم أهمية لمتابعتها. يلعب الألمان دور الوسيط النزيه في الشرق الأوسط منذ خمسة عشر سنة وحققوا صفقات بين حزب الله وإسرائيل أخرها في يوليو عام 2008 عندما استعاد حزب الله بعض مؤيديهم بينهم سمير القنطار مقابل حصول إسرائيل على رفات جنديين قتلوا في حرب لبنان 2006. في صيف عام 2009 ينشط الوسيط الألماني من جديد في الشرق الأوسط. منذ يوليو الماضي يطير بين أوروبا والشرق الأوسط: بين برلينوالقاهرة ودمشق وتل أبيب وأصبح الآن موظفون حكوميون ألمان يتفاوضون مع حكومة نتنياهو وحركة حماس. بالنسبة للحكومة الألمانية هذه فرصة نادرة للحصول على نفوذ سياسي في الشرق الأوسط وأن تكون بالنسبة لأطراف المنطقة شريكا لا يمكن تجاهله على الرغم من تحيزها الأعمى لإسرائيل بسبب عقدة الذنب. الجديد في هذه التطورات أنه على النقيض من أن المخابرات الألمانية ترتبط باتصالات وثيقة مع حزب الله اللبناني منذ سنوات طويلة بينما كانت حماس غير مقبولة كشريك بسبب موقف برلين المعارض لحماس. في مطلع العام الحالي ظهرت مؤشرات بعقد صفقة وتأملت حماس في الحصول على اعتراف سياسي بعد أن عرضت فرنسا وكندا والنرويج استعدادها للتوسط بين حماس وإسرائيل. لكن إسرائيل رفضت توسط هذه الدول كي لا تحصل حماس على اعتراف سياسي. ثم لجأت إلى أكبر حليف لها بعد الولاياتالمتحدة: ألمانيا. من ناحية ليس لألمانيا أي نفوذ سياسي في الشرق الأوسط كما ليس لها أطماع سياسية وتعمل ما يخدم أولا وأخيرا مصلحة إسرائيل. بالنسبة لنتنياهو فإن الإفراج عن شاليط نصر سياسي كبير وفرصة ليحسن سمعته وانتصار متأخر على سلفه إيهود أولمرت الذي فاوض في السنوات الثلاث الماضية دون نتيجة. كذلك تحتاج حماس إلى نجاح الصفقة بسبب ازدياد اليأس في قطاع غزة منذ نهاية الحرب التي شنها الجيش الإسرائيلي ويتهمهم الكثير من العرب بتحمل مسؤولية تردي المعيشة في القطاع مع أن الحصار الإسرائيلي هو السبب الرئيسي. كما أن نجاح الصفقة سوف يعزز دور حماس في قطاع غزة ويقوي نفوذها أمام حركة فتح المنافسة لها. لذلك فإن الفرصة ليست سيئة بعد أن رضيت حماس باقتراح المخابرات الألمانية وهو عبارة عن خارطة طريق: بعد تبادل الأسرى يجري نقل شاليط إلى القاهرة أولا بعد إفراج إسرائيل عن أول دفعة من المعتقلين الفلسطينيين ثم يجري الإفراج عن الدفعة الثانية بعد وصول شاليط إلى العاصمة المصرية ويصر نتنياهو على أن يجري الإعلان أن إسرائيل قامت بمبادرة إنسانية في الإفراج عن معتقلين فلسطينيين لأنه يريد تجنب أي ضغط سياسي حفاظا على شركائه الإسرائيليين المتشددين في حكومته الائتلافية.