الأهرام: 1/4/2009 لم تخل الايام القليلة الماضية من إثارة وتطورات كل منها يفيض بدلالات عميقة, تستدعي منا وقفة تأمل, هذا إن كنا حريصين علي مستقبلنا وأمننا خاصة ومنطقتنا العربية عامة. أحد أوجه الإثارة متضمن في واقعة ضرب طائرات, اتفق علي انها إسرائيلية حسب روايات أمريكية موثوقة, لشحنة سلاح مهربة في شرق السودان, وصفت بأنها إيرانية وانها كانت متوجهة إلي قطاع غزة المحاصر. القصة علي هذا النحو تتضمن كل جوانب الإثارة, ففيها كل عناصر المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل, ولكن علي أرض عربية, وفيها ما يؤكد أن كلا القوتين لا توليان أية اعتبار لمسألة سيادة الغير, وتعتبران الأرض العربية ساحة مواجهة مفتوحة. والأهم من كل ذلك اننا أمام حالة اختراق واضحة لأمن السودان الجار والشقيق. تطور آخر يشي ببعض هذه الدلالات الاضافية, وهو إقدام المغرب علي قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران بسبب ما اعتبره تدخلا في شئونه الداخلية ومحاولة للتأثير علي النسيج السني للبلاد من خلال دعم عمليات التشيع. وبعد عدة أيام اغلقت مدرسة عراقية في الرباط للسبب ذاته. وفي السياق المغاربي نشاهد وزير الخارجية الايراني يزور موريتانيا, ويشيد بقادة الانقلاب العسكري فيها لأنهم قطعوا العلاقات مع إسرائيل, ويبشر بمنحة قدرها عشرة ملايين دولار لاستكمال مبني مستشفي كانت إسرائيل تعتزم بناءه. تطور ثالث لا يقل أهمية يتمثل في تصريح الرئيس اليمني علي عبد الله صالح لجريدة الحياة28 مارس2009, أكد فيه صلات بين التمرد الحوثي في بلاده وعناصر من حزب الله اللبناني. وبالرغم من اللغة الدبلوماسية الشديدة التي تحدث بها الرئيس اليمني عن علاقة بعض عناصر حزب الله اللبناني بالتمرد الحوثي, وترجيحه ألا يكون هناك قرار رسمي من قيادة الحزب بهذا الامر, فمن يعرف طبيعة حزب الله والانضباط الشديد الذي يلتزم به كل عضو فيه أيا كان موقعه, يدرك علي الفور مغزي رسالة العتاب التي وجهها الرئيس صالح للحزب. وهو عتاب راجع إلي موقف اليمن المعروف بتأييد حزب الله في صراعه مع إسرائيل, بينما بعض عناصر الحزب تدعم تمرد فئة من الشعب علي السلطة اليمنية الشرعية. إلي جانب العتاب, ثمة دلالة واضحة وهو أن الحزب بات يصدر خبراته العسكرية لجماعات متمردة في بلدان عربية. التطورات السابقة تتفق معا في أنها مزيج من تفاعلات إسرائيلية وإيرانية مع أطراف عربية, وأنها تصب جميعها في نتيجة واحدة وهي انكشاف الامن القومي العربي من خلال انكشاف لبعض أعضاء النظام العربي. لم ينقطع الحديث يوما عن انكشاف الامن القومي العربي, البعض يربط ذلك بتداعي التضامن العربي وغياب الحد الأدني من الاتفاق علي الأولويات والقضايا, والبعض الآخر يطور هذه الرؤية بما يصفه غياب المشروع العربي الجامع, في حين أن باقي القوي الإقليمية لديها مشروعها الوطني الواضح في أهدافه وفي سياساته. وفي المحصلة أن العرب ليس لديهم تصور لأنفسهم ولا لطموحاتهم يسعون إلي تحقيقها, بينما الآخرون منهم دول كإيران وإسرائيل وتركيا ومنهم أيضا تنظيمات عابرة للحدود كالقاعدة, يسيرون علي هدي بوصلة استراتيجية واضحة. ورغم الفروقات الضخمة بين مشروعات هؤلاء جميعا, لكنهم يتشاركون في أمر واحد وهو الصراع في وعلي العالم العربي بموارده وسكانه وموقعه المهم. لكن علينا هنا الاستدراك بالقول أن حجم المخاطر والتهديدات التي تنطوي عليها مثل هذه المشروعات الاقليمية ليست واحدة, والسياسات المرتبطة بكل مشروع غير متطابقة. فكل منها له سماته ونطاقه العملي. فالمشروع الاسرائيلي الساعي إلي تكريس احتلاله للأرض الفلسطينية وتهويد أكبر مساحة ممكنة منها وعدم التجاوب مع مطالب التوصل إلي تسوية شاملة قابلة للاستمرارية, وطموح الهيمنة القسرية علي مصير الإقليم العربي ككل بوسائل القوة الخشنة والمسلحة بما في ذلك القوة النووية, يختلف تماما عن المشروع الايراني الساعي بدوره إلي تحقيق هيمنة علي الاقليم نفسه ولكن بوسائل مختلفة معظمها ناعم, منها التغلغل في المجتمعات العربية وتوظيف حالات الفراغ السياسي والأمني في حالات عربية معينة لصالح التمدد الافقي والرأسي فيها, واستقطاب أطراف عربية ومناصرتها في مواجهة أطراف عربية أخري بما يكرس الانقسام العربي, والذي بدوره يضعف المناعة العربية ويزيد من الانكشاف العربي الجماعي ويسهل أهداف المشروع الإيراني. وهذان المشروعان لا يقارنان من حيث الطبيعة الهجومية بالمشروع التركي, الذي يركز بدوره علي التعامل مع المنطقة كسوق واسعة والارتباط السلمي بدولها ومجتمعاتها من خلال تقديم نموذج سياسي اقتصادي أمني متكامل, وبما يحقق للدولة التركية في طورها الجديد ميزات تفضيلية أكثر في تناطحها مع الاتحاد الاوربي. والثلاثة معا يختلفون جملة وتفصيلا عن مشروع القاعدة الهادف إلي قلب كافة معادلات المنطقة مجتمعيا ودوليا, وتشكيل كيان إيديولوجي ديني يناطح الغرب ويصارعه إلي يوم الدين. وهكذا تتطلع كل هذه المشروعات إلي تحقيق مكاسب لمصلحتها الذاتية وعلي حساب المصالح العربية الجماعية, وكل منها يمثل أحد مدخلات الانقسام العربي الذي وصل إلي ذروته في الأشهر القليلة الماضية لاسيما إبان عدوان إسرائيل الهمجي علي قطاع غزة. ومع ذلك لابد أن نشير إلي أن إدراك العرب لمخاطر كل مشروع علي حدة ليس متطابقا أو حتي متقاربا. وبعد استبعاد المشروع التركي نظرا لطبيعته السلمية بوجه عام ولكونه يقوم علي نسج مصالح متبادلة مع الاطراف العربية وعدم تطلعه إلي قيادة قسرية للمنطقة, وبعد استبعاد أيضا لمشروع القاعدة الذي ترفضه المنطقة نظرا لطبيعته الدينية الراديكالية, يمكن أن نلاحظ نوعا من التداخل في المخاطر بين المشروعين الإيراني والاسرائيلي رغم كونهما يواجهان بعضهما, نوضحه فيما يلي: أن كلا المشروعين الايراني والاسرائيلي يتضمن شقا نوويا مستترا. وحتي مع الأخذ في الاعتبار أن هناك فارقا نوعيا في قدرات الطرفين النووية, فإسرائيل هي دولة نووية بالفعل ولديها ترسانة كبيرة يمكنها تدمير المنطقة عن بكرة أبيها وإن لم تعلن ذلك صراحة, فقد عبرت عن ذلك بطرق التفافية عديدة تؤدي الغرض المطلوب في الردع بأشكاله المختلفة. أما القدرات النووية الايرانية فهي في البدايات الأولي, وطابعها السلمي يبدو أكثر وضوحا حتي الآن, ولكن نتائجها المعنوية الحالية والمباشرة بادية للعيان, وكذلك آثارها العسكرية المحتملة بعد حين لا يمكن تجاهلها. أن إدراك العرب للمخاطر والتهديدات الوجودية التي تنطوي عليها الترسانة النووية الاسرائيلية هو محل إجماع ولا شك في ذلك. بينما الإدراك العربي الجماعي للمخاطر المحتملة للبرنامج النووي الإيراني ليس محل توافق, بل هناك من يعتبر البرنامج الإيراني سواء في طوره السلمي أو العسكري المحتمل بعد حين يصب في صالح بناء توازن استراتيجي جديد يحيد القدرات النووية الاسرائيلية نفسها, ومن ثم يعتبره إضافة لصالح العرب رغم عدم واقعية ذلك. وثمة رؤية أخري تركز علي مخاطر بيئية محتملة لاسيما علي دول الخليج العربية, خاصة في ظل غياب الشفافية عن مجمل خطوات البرنامج الإيراني. أن كلا المشروعين ينطوي علي تغييرات كبري في نسيج المنطقة الاجتماعي وفي جغرافيتها, وإن بدرجات مختلفة وأدوات مختلفة أيضا. ويلاحظ أن أدوات إيران الناعمة قائمة أساسا علي أمرين; أنها في مواجهة مع إسرائيل بما يرضي قطاعات عربية واسعة, وأنها تلتزم الاسلام بما يسهل عليها التواصل المباشر مع المجتمعات العربية. أن كلا المشروعين يركزان علي أطراف المنطقة العربية, باعتبارها الأضعف والتي لا تنال اهتماما عربيا جماعيا إلا فيما ندر وبصورة عشوائية. وثمة قوس في الجنوب العربي يمتد من اليمن ويمر بالسودان والصومال وجزر القمر ويصل إلي موريتانيا والمغرب في اقصي الغرب, جميعها تمثل نقاط ارتكاز بشكل او بآخر لطموحات المشروعين رغم تعارضهما من حيث الجوهر. نحن إذن أمام تحد مزدوج, لا يجوز فيه اعتبار أحدهما بديلا عن الآخر, أو التشدد مع أحدهما, والتساهل مع الآخر. وإن كان الامر كذلك فلا مفر من التفكير في تحديد الأمن العربي الجماعي, وإلا انفرط العقد تباعا, ولن يفيد حينها الندم.