إنها العاشرة صباحا، والعنوان هو شارع غامبون الباريسي المعروف، القريب من «بلاس فاندوم»، المتخصصة في بيع مجوهرات النخبة. اسم الشارع، الذي ارتبط بدار «شانيل» منذ العشرينات من القرن الماضي، حين افتتحت الآنسة كوكو أول محل لها فيه، شهد يوم أمس عرضين للدار، الأول في العاشرة صباحا، والثاني في الثانية عشرة. والسبب هو أن المكان صغير ولا يستوعب كل الحضور في وقت واحد، مع العلم بأنها المرة الأولى التي لا تعرض فيها الدار في «لوغران باليه»، المعروف بأبهته وقبته الزجاجية الضخمة التي تتيح أكبر قدر من الضوء، منذ ترميمه. المكان الجديد أصغر وأكثر حميمية، وأجمل ما فيه الديكور الرائع، الذي كان عبارة عن ورود من كل الأنواع مصنوعة من الورق الأبيض وطاولات مستديرة مغطاة أيضا بشراشف من الورق المخرم، لتعود بنا إلى زمن كوكو شانيل، حين كانت عروض الموضة تقام في صالونات خاصة جدا. الديكور كان إشارة إلى أن الأبيض سيكون سيد الموقف، وهذا ما كان. لكن التعليق الذي تم تبادله بين العديد من الحضور، وإن كانوا كلهم أعجبوا بالمكان، هو أن التغيير جاء نتيجة الأزمة أكثر منه تحية لمؤسسة «كوكو شانيل»، فيما كان للبعض الآخر رأي مغاير مفاده أن «لوغران باليه» محجوز في هذا الوقت. وسواء كان السبب كما قيل، أو لأسباب اقتصادية، فإن المهم هو أن تشكيلة الدار للربيع والصيف، جاءت مطابقة لتوجهات المصمم المخضرم، كارل لاغرفيلد، الذي صرح في عدة مناسبات بأنه ابن عصره، ومتابع جيد لمجرياته، وبالتالي فإنه لا بد أن يتأثر بأحداثه التي يعكسها في أعماله. وهذا بالتحديد ما عكسته المجموعة من البداية إلى فستان الزفاف: أسلوب بعيد كل البعد عن استعراض الجاه والثروة والفخامة، اقتصر فيه على تصميمات هندسية محسوبة عند الأكتاف والخصر، وعلى إضافة تفاصيل ذكية بشكل خفي وغير واضح للوهلة الأولى، لكن بالاقتراب من كل قطعة ولمسها يمكن اكتشاف عبقرية المصمم. وكأن هذا التواضع في الغوص في الفخامة واستعمال الألوان، التي اقتصرت على الأبيض ثم الأبيض مع قليل من الأسود والبيج، ليسا كافيين لتجسيد رؤيته؛ استعان كارل هذه المرة بمصفف الشعر الياباني المعروف كاتسويا كامو، الذي منح العارضات تسريحات وإكسسوارات شعر مصنوعة من الورق. صحيح أنها رائعة في فنيتها وأعطت التأثير الدرامي المطلوب، لكنها تبقى من ورق، وهو أمر لم نعتده في موسم «الهوت كوتير» الذي تستعرض فيه الفنية والفخامة بنفس الدرجة. ما لا يختلف عليه اثنان أن دار «شانيل» مؤسسة عريقة، ولها زبائنها الأوفياء، لكنها - كغيرها من المؤسسات التجارية - ليست بمنأى عن الأزمة، فقد صرحت منذ فترة أنها بدأت تتخذ «تدابير احتراسية»، منها تقليص ميزانية السفر المخصصة لموظفيها، ووقف معرضها المتجول الذي كانت المهندسة العراقية زها حديد قد صممته للدار، واستوحيت تفاصيله من حقيبة الدار الأيقونية المبطنة، وتسريح بعض العاملين فيها. في الجهة المقابلة، يبدو أن بعض المصممين اللبنانيين غير مبالين بالأزمة، وكأنها حاصلة في كوكب آخر، وهذا لا يمكن أن يحسب ضدهم، بل على العكس، فال«هوت كوتير» لا تزال لها معجباتها وعميلاتها، في الشرق الأوسط مثلا، وهذا ما يقامر عليه العديد منهم. السيدة «م.س»، وهي أردنية متزوجة بلبناني وتعيش في لندن، قالت ل«الشرق الأوسط» إنها ستحضر كل العروض، مصحوبة بمتسوق خاص من محلات «هارودز» بهدف اختيار فستان زفاف لابنتها الشابة، التي ستتزوج الصيف المقبل في اليونان، فضلا عن شراء مجموعة من الفساتين لحضور حفلات ودعوات ما قبل وما بعد حفل الزفاف. وهذا أكبر إشارة إلى أن السوق العربية، على الأقل، لا تزال تنعش المنتجات المترفة. زهير مراد، بدوره، قال إن تشكيلته تسبح في الاتجاه المعاكس للأزمة، فهي سعيدة تستهدف إدخال التفاؤل على من يراها، لكن المشكلة في تشكيلة مراد أنها أخذتنا إلى حقبة تتمنى غالبيتنا تناسيها، ألا وهي الثمانينات، بكل بريقها واستعراضها ومبالغاتها. استهل العرض بفستان أسود حالم وجميل بعث الأمل في الاستمتاع بتشكيلة رومانسية، لكنه سرعان ما أتبعه بسلسلة من التصميمات التي لا تحمل جديدا، بقدر ما هي مثقلة بالتطريزات والأحجار والخرز والترتر والأجزاء المكشوفة. باستثناء قطع معدودة، أكدت أن زهير مراد مصمم متمكن، من الصعب تصور أنيقة في سانت تروبيه أو في جزر الكاريبي، تلبسها من دون أن تشعر أنها قد رجعت إلى الوراء، أو أن الموضة قد توقفت بها في مرحلة حرجة جدا. على العكس منه تماما قدم ابن بلده جورج شقرا، تشكيلة أكدت أنه مصمم يجمع الرؤية الواضحة بالفنية العالية والحرفية المتقنة. كل فستان كانت تظهر به عارضة على المنصة يختلف عن غيره من ناحية التصميم والتقنيات المستعملة، سواء كانت على شكل ورود من الأورغنزا تزين تنورة مستديرة ضخمة، أو طيات تزين الظهر وتتدلى منه. لعبته كانت الأحجام الكبيرة والمتحركة برشاقة وخفة، لا تثقل الجسم بفضل استعماله للأقمشة الشفافة والخفيفة. يقول إن تأثيراته هنا كانت مشاعره المختلفة، فقد تكون مرة مجرد بليسيه يوقظ في نفسه صورة حية يجسدها في قطعة فخمة تزينها رسومات وأزهار من نفس القماش، أو من قماش مغاير، وهذا ما اعتمد عليه لإضافة الفخامة عوض الأحجار والأصداف. جورج شقرا كان كمن يريد أن يقول للعالم إن فنيته لا تحتاج إلى تفاصيل براقة لتخلق التميز، فهو قادر على ذلك دون مساعدة خارجية، عدا أنه يعي أن هناك أزمة، فشقرا، الذي عايش عدة حروب في لبنان وتبعاتها، ونجح في الخروج منها وتجاوزها، اعترف هذه المرة أن الأزمة مؤثرة، «إذا كانت المناسبة هي حفل زواج، فقد نرى الطلب على أربعة فساتين سهرة عوض 10 كما كان الحال في السابق. لكن الحياة تستمر ولن يلغى حفل الزواج». تجدر الإشارة إلى أن شقرا سيقدم أول تشكيلة من الملابس الجاهزة في الشهر المقبل خلال أسبوع نيويورك للموضة، وبهذا يكون قد خطا خطوة أكبر نحو العالمية. المصمم الفرنسي المخضرم كريستيان لاكروا، قدم في اليوم نفسه تشكيلة متوهجة بالألوان ومتفتحة بالورود والأزهار، مفعمة بالتفاؤل، وتحمل كل بصماته، بدءا من تأثيرات موطن رأسه جنوبفرنسا، أو تأثيرات إسبانيا التي تجلت في الجاكيت البوليرو القصير والفساتين الواسعة ذات الطيات المتعددة بألوان الأحمر أو المنقطة والتي تستحضر راقصات الفلامنكو. لم يستطع لاكروا التجرد من فنيته التي تعشقها الأميركيات بالذات، سواء في قدرته العجيبة على جعل الفستان يلف حول الجسم فيحوله إلى زهرة متفتحة، أو يضفي عليه الرشاقة، لكنه استطاع أن يتجرد من المبالغة. فتحت الطيات والطبقات المتعددة والألوان المختلفة في المظهر الواحد، كانت هناك بساطة رائعة. ولولا الإكسسوارات الضخمة على شكل أساور عريضة ومتعددة، أو أقراط أذن مستديرة تكاد تصل إلى الأكتاف، لكانت الإطلالة جديدة على مصمم يعشق الألوان ويرسم بها تحفا لا تخاطب المرأة العادية على الإطلاق.