بات الإعلان المطبوع والمرئي يلعب دوراً مهماً في حياتنا، خاصة في ظل هيمنة ثقافة الاستهلاك التي أطلقتها العولمة، لكن هل يمكن تصور الصحف والمجلات والفضائيات بلا إعلانات؟! قصة الإعلان في مصر والتي تعود إلى عصر الفراعنة تقول عنها سوزان عابد المسؤولة عن توثيق الإعلانات المصرية في مشروع «ذاكرة مصر المعاصرة» بمكتبة الإسكندرية: ذات صباح شطح بي خيالي وأنا أتصفح الصحف والمجلات كعادتي؛ حيث توقفت عن القراءة وأطلقت لخيالي العنان، لأتخيل ماذا لو فتحت غدًا الصحيفة ولم أجد بها أي إعلان؟ من المؤكد أن حجمها سيصل إلى النصف، وستفقد كثيرًا من المرح الذي أجده في الإعلانات، ولكني فكرت بجدية أكثر وتخيلت أنه ليس فقط الصحف التي سوف يتوقف فيها الإعلان، ماذا لو لم أجد إعلانات في التلفاز والراديو والمجلات وعلى الحوائط والأعمدة، صحيح أن الإعلانات هذه الأيام سواء المقروءة أو المسموعة أو المصورة أصبحت شيئا مبالغا فيه من كثرتها وطولها وفي بعض الأحيان توقيت عرضها، إلا أن مجرد التفكير في إلغائها شيء صعب، فكيف سيتمكن المستهلك من معرفة المنتجات الجديدة الموجودة في الأسواق، أو عروض الرحلات السياحية أو ما تعرضه دور السينما والمسرح، أو الوظائف الشاغرة أو العقارات المعروضة للبيع، وما إلى ذلك من الأشياء التي اعتدنا أن نجدها في الإعلان.. وهو الأمر الذي دفعني إلى التساؤل، ماذا كان يفعل أجدادي حيال هذا الأمر، بل ماذا كان يفعل أجداد أجدادي منذ ما يقرب من خمسة آلاف سنة للإعلان عن منتجاتهم؟ فهل كان المصري القديم يقف بزيه المميز وسط الميدان العام بمجموعة من أوراق البردي الملونة والمزركشة لبيعها؟ أو مجموعة من التماثيل الصغيرة، ليقنع الزبون بشرائها؟ فيلتف حوله الزبائن، ويخبر بعضهم البعض بهذه المنتجات الجديدة التي وصلت للتو من المعبد؟ قامت سوزان عابد بالبحث في تاريخ الإعلانات المصرية، فوجدت الإجابة التي شجعتها أكثر على المضي في البحث بأن أوراق البردي والتماثيل، وما شابه ذلك لم تكن للبيع آنذاك، حيث كان المصري يذهب للنحات ليطلب منه عمل تمثال صغير أو كبير حسب مقدرته ليقدمه كقربان للإله في المناسبات الدينية، كما أن نظام البيع والشراء، كان مقتصرا على نظام المقايضة، أي يحصل على القمح في سبيل الاستبدال به بعض الحبوب الأخرى، أو يحصل على تمثال في سبيل دفع قيمته من الحبوب والشعير وهكذا، ولكن ليس معنى ذلك أن الإعلان لم يكن معروفا، بل كانت فكرة الإعلان مختلفة من حيث الشكل والمضمون عن مفهومنا الحالي لها، فكان الإعلان مقتصرا على الأوامر والمراسيم الملكية الخاصة، مثلاً بزواج الملك، فكان يتم حفر الأمر الملكي على الحجر، ويعلق في المعبد الرئيسي الخاص بالملك، وتوزع نسخ منه على المعابد الكبيرة التي يزورها الناس في الأعياد والأيام الرسمية للتعبد وتقديم القرابين وما إلى ذلك ليجدوا الأمر الملكي معلقا يفيد بزواج الملك أو رفع قيمة الضرائب أو زيادتها. كما أن الاستدعاء للخدمة في الجيش كان يتم بهذه الطريقة أيضًا، حيث يعلق المسؤول (قائد الجيش) اللوحة الحجرية، التي تفيد بأن الملك يأمر بدخول الصبية في خدمة الجيش فيتقدموا للقائد لاتخاذ الإجراءات اللازمة، بل إن نوعا من الإعلانات الاجتماعية التي نجدها اليوم كالتهنئة بمناسبة النجاح أو الزفاف أو الشكر لمسؤول عن واجب قدمه أو خدمة قام بها وما إلى هذا نجده في أجمل صوره في حجر رشيد، فقد رفع الملك بطليموس الخامس (إبيفانس) كثيرا من الضرائب عن كاهل المواطن المصري، فتقدموا بعريضة شكر حفرت بلغات ثلاث كانت السبب في الكشف عن اللغة المصرية القديمة عن طريق حجر رشيد. ثم تطور شكل الإعلان بعد ذلك، وأصبح له دور مؤثر وفعال فكان هناك شخص يتولى هذه المهمة الشاقة يركب على دابته، وينادي بين الناس في الشوارع والأزقة أن الوالي قرر زيادة الضرائب، أو رفعها، أو أن الشخص الفلاني اتهم بسرقة ما، أو أن هناك اجتماعا للقضاة مع الحاكم، كل هذا حدث في زمن لم تكن الطباعة قد ظهرت بعد ليكتب بها الملصقات، وتعلق على جدران المنازل، وتطور الأمر فأصبح لكل حارة أو درب، مناد خاص توكل له مهمة الإعلان سواء عن السلع والبضائع أو الأفراد أو القرارات والاستدعاءات، ومن أشهر الجمل التي كان يرددها المنادي «والحاضر يعلم الغائب». وتقول سوزان عابد أنه مع اختراع الطباعة والنهضة الصناعية الكبرى التي حدثت في العالم بصفة عامة تغير شكل ومسار الإعلان، فلم يعد هناك المنادي كما كان من قبل، بل ظهرت الصحف كنتيجة طبيعية لاختراع الطباعة، فاتخذ الوالي محمد علي باشا من صحيفة «الوقائع» المصرية صدرت في أول الأمر باللغتين التركية والعربية صحيفة رسمية، ولا تزال حتى الآن، اعتبرها محمد علي جريدة الحكومة الرسمية، فأصدر أمره بتهيئة الوسائل لنشر هذه الجريدة، كما أنه كتب إلى المديرين ورؤساء الدواوين يطلب «خلاصة خصوصية عن الوقائع التي تحصل بالجهات وإرسالها إلى قلم الوقائع الذي أنشئ بتاريخ 15 رجب سنة 1244ه لطبعها وتوزيعها على الذوات الملكية والجهادية، وتحصيل ما تقرر على ذلك من الرسوم». وذلك ليعلم أهل مصر بما يدور في بلادهم من شؤون وأحداث، فقد تضمنت أعداد «الوقائع» بعض الأخبار الداخلية، وخاصة ما اتصل منها بأخبار الوالي كما أنها عنيت بالمجالس الرسمية كحوادث مجلس المشورة، وحوادث ديوان الخديوي، وبعض أخبار خارجية وغيرها من أخبار الداخل في المدن المهمة كالإسكندرية، كما أن بعض صفحاتها تخصصت بالمسائل التجارية، وقليل من الإعلانات انتشرت هنا وهناك. وتضيف عابد أنه منذ ذلك الوقت، تغير شكل الإعلان في مصر، وأصبح شيئا مستقلا عن الأخبار، ففي وقت مضى كان الإعلان عبارة عن خبر قصير، يفيد بأن منتجا جديدا طرح في الأسواق، أو أن عقارا معروضا للبيع.. فبعد ظهور الصحف والمجلات وهي في الأساس تضم مجموعة من الأخبار المتنوعة بين سياسية واجتماعية وثقافية أصبحت الإعلانات مستقلة وتكتب عادة بنفس نوع الخط، ولكن بحجم أصغر وتحدد بإطار من نفس لون الخط، ليستطيع القارئ تميزها عن مجمل أخبار الصفحة، وكانت معظمها إعلانات تجارية وعقارية ومزادات. مع انتشار الصحف والمجلات وكثرة عدد المثقفين والملمين بالقراءة والكتابة، ازدادت أهمية الإعلانات بالنسبة للمنتج فقد أصبحت الأداة التي يستخدمها كوسيلة مباشرة بينه وبين المستهلك ليطلعه على السلع الجديدة ومميزاتها، وكانت معظم هذه الإعلانات تتميز بطرافتها وأسلوبها التوجيهي الساخر. وفي بعض الأحيان كانت ذا حس فني عالٍ من حيث الرسوم والنص المتقن، فكثير من الإعلانات التي انتشرت في فترة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، كثرت فيها الأخطاء النحوية وانعدمت فيها الصياغة اللغوية الجيدة، كما ظهرت فيها الألفاظ الأجنبية والعامية بوضوح. وتقول سوزان عابد «لو تصفحنا إحدى المجلات القديمة لوجدنا تنوعا كبيرا في أنواع الإعلانات المنشورة منها مثلاً الإعلانات الاجتماعية كتهنئة الملك بعيد الميلاد أو الزواج أو عيد الجلوس على العرش، ومنها إعلانات المبيدات الحشرية التي ما زال بعضها مستخدما حتى اليوم. وتتميز إعلانات المبيدات بطرافتها في إقناع الجمهور بشراء السلعة، كما ظهر نوع من الإعلانات اختصت به الصحف والمجلات نفسها، وهو الإعلان عن أهمية الإعلان في زيادة الربح وسرعة بيع المنتجات والسلع، ومن الإعلانات الطريفة بالنسبة لنا اليوم إعلانات السيارات، فعندما تقرأ مميزاتها اليوم تستطيع أن تلمس مدى التقدم الذي أحرزه الإنسان في صناعة السيارات. كذلك إعلانات الصحف والمجلات فكانت كل مجلة تنشر إعلانا أو أكثر عن العدد القادم الذي تنبه أنه يضم مفاجأة لقرائه كزيادة عدد الصور الملونة، أو زيادة عدد المقالات أو وجود مقال لكاتب كبير وهكذا.. ومن أطرف ما يصادفك وأنت تتصفح مجلة قديمة إعلانات الفرق الاستعراضية كإعلان عن فرقة الفنانة فاطمة رشدي صديقة الطلبة، أو عن كازينو عز الدين الذي يقدم أرشق وأجمل فتيات الاستعراض وأطرف المنولوجات. ولم تقتصر الشركات على الإعلان عن المنتج فقط بل كانت تعتمد على عمل المسابقات ذات الربح المادي لتشجع المستهلك على الشراء، كما أن فكرة الاستعانة بشخص مشهير ذي جاذبية خاصة عرفت منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، ولكن بشكل مختلف، حيث كان يتم الاستعانة بصورة لفنانة مشهورة ذي بشرة ناعمة، لوضعها مع مستحضر تجميل للعناية بالبشرة، والتأكيد على أن الفنانة منذ أن استخدمت المستحضر المعلن عنه أصبحت صاحبة بشرة بيضاء ناعمة. كما تميزت الإعلانات الخاصة بالسينما والمسرح في ذلك الوقت، بفكرة محددة، وهي الإعلان عن أهمية الفيلم، سواء في تدعيم قيم دينية أو اجتماعية أو تقديم استعراضات جديدة أو وجود طفلة يطلق عليها الطفلة المعجزة، أو أن الفيلم هو أروع ما قدمه الفنان على الإطلاق. وهكذا.. أصبح من السهل أن تميز كل فترة زمنية على حدة من إعلاناتها، سواء المنشورة أو المسموعة أو المرئية.