تعاني آلاف الأسر الامريكية تحت وطأة جبل من الديون يقدر بنحو 14 مليار دولار، نتيجة لتقلص الائتمان وتآكل المدخرات ولا حل قريب في الافق. فبعد أن انسدت بسبب الازمة المالية سُبل الاقتراض أمام المستهلكين الأمريكيين الذين اعتادوا شراء كل شيء من الوحدات السكنية الى المواد التموينية بأموال مقترضة مما يكلف أكبر اقتصاد في العالم وشركائه التجاريين أموالا طائلة لسداد فواتير الاقتراض. فقد كشف انهيار سوق الإسكان عن مدى اعتماد الأمريكيين على ارتفاع قيم العقارات السكنية في تمويل الانفاق وتعويض مدخراتهم التقليدية التي أنفقوها. فخلال فترة الازدهار العقاري التي استمرت 5 سنوات وانتهت في أواخر عام 2006 نمت ثروات الأسر وزادت مبيعات تجارة التجزئة بسرعة فاقت نمو الدخول وفي الوقت نفسه تناقصت المدخرات. وجاء اتجاه البنوك لتقليص إمكانية الحصول على الرهون العقارية وقروض السيارات وبطاقات الائتمان ليغير عادات المستهلكون في الانفاق وهو ما فشلت الشركات في تكييف أوضاعها عليه بالسرعة الكافية. فالبنوك التي كانت تقدم لعملائها بطاقات الائتمان بكل ترحاب خلال فترة الرخاء بدأت تتجه لخفض أسقف الائتمان بل وتخصص مليارات الدولارات لتغطية الخسائر بعد أن بدأ عملاؤها يتخلفون عن السداد. وأطلقت شركات السيارات الامريكية التحذيرات من حالة أشبه بانهيار الطلب لان المشترين أصبحوا عاجزين عن الحصول على قروض أو غير راغبين فيها، وتتأهب المتاجر لأسوأ مبيعات في موسم أعياد الميلاد منذ 1990 على الاقل. وتشير ميريديث ويتني المحللة بشركة أوبنهايمر، الى ضرورة زيادة مخصصات تغطية خسائر الرهون العقارية لتقليص المخاوف من أن يؤدي تقليص حدود الائتمان الى فرض قيود شديدة على المستهلكين الذي بدأوا يتصرفون بحذر بما يطيل أمد دائرة مفرغة من خسائر البنوك والتراجع الاقتصادي. وقالت ويتني انه مع تآكل المدخرات فان المواطن اذا فقد وظيفته أو تعرض لمرض فانه يفقد سنده الأخير، وبالتالي يصبح المستهلك أكثر حذرا خاصة مع تقلص حدود الائتمان. ومنذ 1996 بلغت قيمة الديون على الامريكيين 8 تريليونات دولار بزيادة 137% أي مثلي الزيادة التي طرأت على حجم الاقتصاد، وبلغ الحجم الاجمالي للديون 14 تريليون دولار ليصبح مساويا تقريبا لاجمالي الناتج السنوي للاقتصاد. ورغم تنامي عبء الدين ضخ المستثمرون من مختلف أنحاء العالم أموالا في الاوراق المالية المدعومة برهون عقارية ومتحصلات بطاقات الائتمان طوال معظم سنوات العقد الاول من القرن ال21 وهو ما ادى الى بقاء تكاليف الاقتراض منخفضة. وبفضل الائتمان السهل ظل المستهكلون الامريكيون يزيدون انفاقهم طوال فترة الازدهار العقاري بل وتجاوزوا بكل سهولة نمو الاجور. وأدت الأموال السهلة الى توسع متاجر التجزئة بانشاء مئات الفروع لشغل مراكز التسوق الجديدة التي بنيت خصيصا للاستفادة من الطفرة الاقتصادية، وزادت الواردات الأمر الذي أدى الى ارتفاع احتياطيات الدول المصدرة مثل الصين، وانكمشت مدخرات الأسر الأمريكية لتقترب من الصفر. وبدأ كل ذلك يتغير مع تنامي مخاوف العالم من تقديم المزيد من الائتمان للامريكيين الذين تجاوزوا إمكانياتهم، ومع تزايد حالات التخلف عن السداد تواجه البنوك صعوبة في إيجاد مشترين جدد لأي استثمارات ترتبط باقتراض الأسر الأمريكية. ومن المُرجح ألا يتحقق الهدف من قرار وزارة الخزانة الامريكية باستخدام جزء من صفقة الانقاذ التي تبلغ قيمتها 700 مليار دولار لدعم إقراض المستهلكين وذلك الى أن يثق المستثمرون أن الامريكيين يمثلون مخاطرة ائتمانية معقولة، بما يعني تقليص الدين البالغ 14 تريليون دولار، لكن ليس هناك اتفاق في الاراء على الحجم الذي يجب أن تقترضه الاسر الامريكية. والشيء الواضح هو أن نسبة ما يدخره الامريكيون من دخلهم تقلصت باطراد منذ بداية سبعينات القرن العشرين من حوالي 10% الى نحو الصفر وأن هذا الاتجاه يتغير. ويعتقد الامريكيون انتعاش معدل الادخار ليرتفع الى 5% خلال عامي 2009 و2010، وبالنظر الى متوسط دخول الأسر فان ذلك يتطلب تقليص انفاق المستهلكين بنحو 500 مليار دولار أو ما يعادل في المتوسط مبيعات التجزئة لنحو 6أسابيع. وأشد ما يبعث على القلق بشأن الاقتصاد أن هذا التحول يحدث بسرعة كبيرة، فقد خفضت الاسر انفاقها كما أن البنوك التي تخشى أن يقبل أصحاب الادخارات على سحب ودائعهم تضيق الخناق أكثر فأكثر على الائتمان. وسواء كان الأمر يتعلق بتراجع الطلب على السيارات اليابانية أو الأثاث الصيني أو الملابس الأمريكية فان تباطؤ إنفاق الأمريكيين يلقي بظلاله على الاقتصاد العالمي. وهو ما دفع اقتصادات صاعدة كالصين واليابان لتطبيق خطط لتحفيز الاقتصاد لدعم النمو مع تراجع الصادرات، خاصة مع انزلاق أوروبا الى ركود اقتصادي. وفي ظل كل تلك الظروف تتوقع مؤسسات مزيدا من الخسائر خلال 2009، اذ تتوقع مؤسسة فيتش ريتنجز للتصنيفات الائتمانية خسائر أكبر في بطاقات الائتمان عام 2009 ربما تصل الى مستويات قياسية، وتحاول المؤسسات المصدرة لبطاقات الائتمان تقليص الخسائر قدر الامكان. وهو ما أكده جوزيف بيوليو محلل قطاع التجزئة لدى شركة مورننجستار في شيكاجو، الذي توقع الكثير من الضربات الوقائية من جانب البنوك مع بدء العام الجديد ومنها على سبيل المثال تخفض أسقف البطاقات الائتمانية وتسهيلات الائتمان للمساكن بصفة عامة فضلا عن اتجاه شركات بطاقات الائتمان لاغلاق الحسابات غير المستخدمة لانها لا تريد لاحد أن يستخدم الحد الاقصى لبطاقة لم يستخدمها خلال عامين. ووفقا لبيانات مجلس الاحتياطي الاتحادي، نمت ديون بطاقات الائتمان بمعدل سنوي متواضع بلغ 1.2% خلال سبتمبر/ ايلول 2008 ليصل الى 971.4 مليار دولار بانخفاض شديد من نسبة 7.4% خلال عام 2007 وذلك، نتيجة لتشديد البنوك لمعايير الاقراض خلال الربع الثالث من 2008. ويبدو انه من الصعب على الامريكيين الخروج من دائرة نضوب الائتمان وتباطؤ إنفاق المستهلكين الذي يرغم الشركات على التخلي عن أعداد أكبر من العاملين وتتخلف أعداد أكبر من الناس عن سداد التزاماتها. ويتوقف مدى تدهور الوضع على حجم الخسائر في الوظائف مع انزلاق الاقتصاد الامريكي الى ركود ربما يكون الأعمق منذ منتصف السبعينات. وفي حال ارتفع معدل البطالة نقطتين مئويتين أخريين الى 8.5% كما يتوقع عدد كبير من الخبراء الاقتصاديين فهذا سيعني أن 3 ملايين آخرين ينضمون الى طابور العاطلين عن العمل ويواجهون على الأرجح صعوبات في سداد فواتير بطاقات الائتمان والرهون العقارية. وبالفعل عانت شركات تجارة التجزئة الكثير بالفعل، وقدمت عدة سلاسل كبرى للمتاجر طلبات لإشهار إفلاسها من بينها شركة سركيوت سيتي ستورز ثاني أكبر شركات الالكترونيات، كما أن مشروعات بناء المراكز التجارية بسبيلها للانخفاض بنسبة 37% خلال 2008. (رويترز)