في كتاب صدر بالقاهرة للمفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري أكد أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يكونوا قط شعبا واحدا ذا "وحدة يهودية عالمية" ويتسق بهوية واحدة ويبحث عن "وطن قومي" وأن القضايا الخاصة بالهوية اليهودية لم تحسم بعد. ويضرب مثلا بقانون العودة الذي صدر بعد إعلان قيام الدولة عام 1948 وينص على أنه يحق لكل يهودي أن يهاجر إلى إسرائيل، ولم يحدد واضعو القانون أي يهودي تحق له العودة كما لم يعرفوا بالضبط ما اليهودية التي يؤمن بها هذا اليهودي في ظل تعدد الموروثات الدينية والعرقية للجماعات اليهودية التي لا تستمد هوياتها "من هوية يهودية عالمية" بل من مجتمعات عاشت في ظلها. ويسجل المسيري في كتابه (من هم اليهود؟ وما هي اليهودية؟) أن قضية تعريف اليهودي ليست مجرد قضية دينية أو سياسية لكنها "مصيرية" تتعلق برؤية الذات والعالم كما تعد مصدرا لشرعية الدولة العبرية نفسها. ويقول إن المؤسسة "الصهيونية" الحاكمة لا تملك الحد الأدنى من الاتفاق حول هذا السؤال ولهذا لجأت إلى تجاهله أو تأجيل النظر فيه وتوصلت إلى "حلول تلفيقية مؤقتة" ويتساءل.. "هل يمكن تأسيس دولة يهودية دون تعريف الهوية اليهودية ودون التوصل إلى تعريف من هو اليهودي؟ " وألقى باللوم على الإعلام العربي الذي لا يعطي هذه الإشكالية ما تستحق من اهتمام. ويضيف أن "الحل الدارويني السحري" في بداية القرن العشرين تمثل في "تصدير المشكلة (اليهودية) إلى الشرق بإقناع الفائض البشري اليهودي بأن تهجيره إلى فلسطين ليس محاولة للتخلص منه وإنما هو عودة إلى أرض الميعاد إلى آخر هذه الترهات وبالفعل قامت الإمبريالية الغربية بتأسيس الدولة الصهيونية لتستوعب هذا الفائض ولتكون قلعة أمامية تدافع عن مصالح العالم الغربي في المنطقة العربية". والكتاب الذي حمل عنوانا فرعيا هو (أسئلة الهوية وأزمة الدولة اليهودية) صدرت طبعته الرابعة "المزيدة" عن (دار الشروق) في 395 صفحة كبيرة القطع. وحظي المسيري باحترام كبير في الأوساط العلمية والعامة حيث كان يتولى منصب المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) التي تأسست نهاية عام 2004 وتضم رموزا من ألوان الطيف السياسي والفكري والثقافي والنقابي. وتتلخص جهود الحركة في شعار "لا للتجديد (للرئيس حسني مبارك) لا للتوريث (لابنه جمال)." ويرى كثيرون أن المسيري من أبرز العقليات العربية في القرن العشرين استنادا إلى أعماله وأهمها موسوعة (اليهود واليهودية والصهيونية.. نموذج تفسيري جديد) 1999 وتقع في ثمانية مجلدات وكتبت في نحو 25 عاما و(الفردوس الأرضي.. دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية الحديثة) و(الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان) و(الحداثة وما بعد الحداثة) و(دراسات معرفية في الحداثة الغربية) و(الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية) إضافة إلى دراساته اللغوية والنقدية ومنها (اللغة والمجاز) و(دراسات في الشعر). كما ترجم قصيدة (الملاح القديم) للشاعر الإنجليزي صمويل تيلور كوليردج مصحوبة بدراسة في أبعادها الجمالية والمعرفية في طبعة فاخرة مصحوبة بتسع لوحات تصويرية وفي حياته نال المسيري اهتمام مفكرين وباحثين ينتمون لتيارات فكرية وأيديولوجية مختلفة كما بدا في ندوة موسعة نظمتها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة استمرت أياما لمناقشة موسوعة (اليهود واليهودية والصهيونية). وفي عام 2004 صدر كتاب (في عالم عبد الوهاب المسيري.. حوار نقدي حضاري) في 1130 صفحة وبه دراسات لأكثر من 80 مؤرخا ومفكرا عربيا وأجنبيا بمقدمة للكاتب المصري محمد حسنين هيكل الذي شدد على الأهمية المعرفية والقيمة السياسية لموسوعة المسيري. وفي يونيو حزيران 2008 أعلن عن منح المسيري (جائزة القدس) التي ينظمها الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب وكانت الجائزة آخر تكريم للمسيري الذي رحل في يوليو تموز 2008 . ويقول المسيري في كتابه (من هم اليهود؟ وما هي اليهودية؟) إن الرؤية الصهيوينة اختزالية تنطلق من فكرة وجود تاريخ واحد لليهود وتؤمن بمفهوم الوحدة اليهودية العالمية بافتراض أنهم حافظوا على هذه الوحدة عبر ألوف السنين، ويتساءل.. هل هو تاريخ يهودي أم تواريخ لجماعات يهودية؟ ويضيف أن تعريف اليهودي قضية أساسية "للعقد الاجتماعي الصهيوني" على خلاف الدول الأخرى فالولايات المتحدة مثلا تستمد شرعيتها من مصادر خارج الديانة المسيحية "أما الدولة الصهيونية فهي تدعي أنها يهودية وأنها تجسد قيما اثنية دينية أو دينية قومية يهودية وأنها استمرار للدولة اليهودية القديمة ولذا يطلق الصهاينة على إسرائيل اصطلاح الهيكل الثالث باعتبار أن هيكل سليمان هو الهيكل الأول وأن هيكل هيرود هو الهيكل الثاني" مضيفا أن ما يصفه بالفشل في تعريف اليهودي يضعف القدرة التعبوية لإسرائيل "ويضرب أسطورة الشرعية الصهيوينة في الصميم." ويرى أن معظم الجماعات اليهودية انصهرت في المجتمعات التي عاشت فيها ضاربا المثل بيهود منطقة القوقاز ويهود جورجيا الذين فقدوا "بمرور الزمن علاقتهم باليهودية الحاخامية" واندمج يهود الصين "تماما وكان كل ما يعرفونه عن اليهودية هو أنهم يهود" كما أصبح يهود العالم العربي عربا واكتسبوا الصفات العربية. ويشدد المؤلف على أن يهود الخزر الذين عاشوا في جنوبي روسيا وتحولوا إلى اليهودية في القرن الثامن الميلادي "يقوض من الادعاء الصهيوني الخاص بالأصول السامية الواحدة ليهود العالم" متفقا مع مؤرخين إسرائيليين أن يهود أوروبا الشرقية من نسل يهود الخزر الذين هاجروا إلى أوروبا. ويخلص من هذا أن الأصل "الخزري لمعظم يهود الغرب أي الأغلبية العظمى من يهود العالم يفند نظرية الحقوق اليهودية في فلسطين (المستندة) على أساس عرقي." ويذهب المسيري إلى أن إسرائيل دولة وظيفية "طفيلية" هاجر إليها من يراهم "مجرد مرتزقة لا يؤمنون بالمثل الأعلى الصهيوني.. كائنات طفيلية شرهة تبحث عن الحراك الاقتصادي" مرجحا أن إسرائيل لن تنهار من الداخل استنادا إلى أن مقومات استمرارها من الخارج لا من داخل المجتمع الذي يقول إنه يعاني تناقضات داخلية إذ يضمن هذا الاستمرار عنصران هما "الدعم الأمريكي والغياب العربي." ويرى أن يقين الجيل الجديد اهتز كثيرا وانخفضت رغبته في الالتحاق بالخدمة العسكرية إذ أدرك أن الدولة العبرية ليست في حالة دفاع عن النفس "وإنما هي دولة عدوانية" وأن الحروب المتصلة لم تؤد إلى السلام أو النصر بدليل "حرب لبنان الأخيرة وهزيمة إسرائيل على يد حزب الله" في إشارة إلى الحرب التي نشبت في يوليو تموز 2006 واستمرت 34 يوما. رويترز