الحياة: 12/9/2008 سيبقى موضوع العراق في واجهة الانتخابات الرئاسية الأميركية نتيجة الاضطرار، قانونياً، للتوصل قبل نهاية هذه السنة الى «الاتفاقية الأمنية الثنائية» التي تعيد انتشار القوات الأميركية في العراق وتنظم حقوقها وصلاحياتها ومواقعها بعد انسحاب القوات القتالية طبقاً لآفاق زمنية يتفق عليه الطرفان. هذه المسألة ليست قابلة للتأجيل لأن قرار مجلس الأمن الذي يعطي القوات الأميركية صلاحية العمل في العراق ينتهي مفعوله مع نهاية هذه السنة. وبالتالي، لا خيار سوى: اما الاتفاقات الأمنية الثنائية، أو ابقاء العراق مُدجّناً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، وابقاء مستقبل القوات الأميركية فيه رهن موافقة روسيا والصين في زمن التوتر في العلاقة الأميركية-الروسية بعد أحداث جورجيا. أي انه في غياب الاتفاقية الثنائية، لا وضع قانوني للقوات الأميركية سوى بموافقة روسيا، وهذه أداة قد لا يرغب أي من المرشحين للرئاسة ان تكون في يد موسكو. قد تختلف أساليب وأفكار كل من فريق المرشح الجمهوري ماكين والديموقراطي اوباما حول كيفية التعاطي مع روسيا بوتين، انما عندما يتعلق الأمر بالقوات الأميركية فالمسألة تأخذ منحى وطنياً وقومياً. فكل الملفات الأخرى تختلف جذرياً عن الملف العراقي لأن في العراق أكثر من 145 ألف جندي أميركياً. أفغانستان مهمة للمرشحين وكلاهما يريد تعزيز القوات هناك لتفوق ال33 ألفاً ليكون في المستطاع الانتصار في الحرب هناك، انما أفغانستان مرتبطة عملياً بالقرارات التي تُتخذ في شأن العراق. ايران مسألة حيوية في حسابات المرشحين، إلا أن سياسات جورج بوش مؤخرا مالت الى «الوسط» الذي يلائم المرشحين معاً، بعدما هبطت ادارته من سلّم رفض التحدث والتمثيل في طهران فتراجعت عن شروط سابقة بلا مقابل وبلا قيود على الرئيس المقبل. الصين بالغة الأهمية للولايات المتحدة لكنها ليست في صدارة الملفات الساخنة، ولا ينوي أي من المرشحين لسع الصين بسوط الديموقراطية قريباً. باكستان انحسرت قليلاً عن رادار القلق الاثني. وفلسطين واسرائيل وسورية ولبنان تأخذ المقعد الخلفي اليوم فيما يقوم الرئيس الفرنسي ساركوزي بمهام في الشرق الأوسط والقوقاز، بالوكالة عن أوروبا وأميركا معاً. أما النفط الذي يشغل البال الأميركي فتراجع اسعاره الملحوظ أفضل سبل الانتقام من ايرانوروسيا وفنزويلا، بحسب العقلية الأميركية. لهذا، لن تركّز الحملة الانتخابية للمرشحين على كثير من الجوهر وصياغات السياسات الخارجية. ما ستفعله هو أن تزيد من الكشف عن شخصية الرجل أو المرأة ممن سيسكنون البيت الأبيض ويتولون قيادة الدولة العظمى الوحيدة. انها جردة لتاريخ المرشحين ومواقفهم لكنها في واقعها عملية تعارف منظمة بجزء منها بحملات مهنية وراءها «هم»، وهي في جزء آخر حقاً علاقة جوهرية وحميمية بصورة غير معتادة بين الناخب والمُنتخب. لذلك يفيد التواجد قريباً من المرشحين وليس فقط مع مستشاريهم للتعرف الى لغة تفكيرهم بدل الانسياق فقط وراء خطبهم. مراقبة أوباما عن بعد أمتار يخطب في الملعب الرياضي بدنفر محاطاً بحوالى 80 ألفاً كانت بالتأكيد مفُعمة بالمعنى التاريخي. حاول تقديم نفسه حازماً جاهزاً للتحدث والقيادة وخاطب ماكين بلغة الثقة بالنفس والجهوزية للمعركة. إلا أن ما حصده تلك الليلة من نقاط تفوُّق على ماكين ما لبث ان زال نتيجة القنبلة الجمهورية المسماة سارة بيلين التي خاطبت القاعدة التحتية للحزب الجمهوري، فضجّت الولاياتالمتحدة والعالم بها، واهتزت استراتيجية الحزب الديموقراطي. فبيلين بدت وكأنها امرأة عادية تعتاد عليها الطبقة المتوسطة ودونها من الأميركيين. أما أوباما، فبرغم كل محاولاته، بقي بعيداً وفوقياً عن تلك الطبقة بغض النظر عن لونها وعرقها. التناغم بين المؤتمرين الجمهوريين وبيلين في سان بول كان من نوعٍ مختلف عنه بين المؤتمرين الديموقراطيين وأوباما في دنفر. ضخامة الحدث في دنفر وتنوّع الوجوه في الملعب الرياضي كانا أكثر الهاماً بالتأكيد. لكن تواصل بيلين مع جمهورها ترك صدىً كبيراً تعدى قاعة المؤتمر وهزّ أوباما الذي أحس بالخطر على حظوظه، كما بات مضطراً لمواجهة المرشحة التي تحسن مثله الخطابة. ومثل مرشحه لمنصب نائب الرئيس، جو بايدن، يحسن توجيه اللكمات وربما الضربات القاضية. ففي هذه المحطة، يبدو المرشح الجمهوري ماكين فوق الثلاثة وكأنه يقول انه في مرتبة أعلى نتيجة خبرته وشخصيته. ماكين ليس خطيباً مُلهماً. انه أفضل بكثير في الجلسات الخاصة. الذين جلسوا مع أوباما يخرجون من الجلسة بانطباعين أساسيين هما: ان التواصل معه صعب فيبدو وكأنه يضع مساحة مع محدثيه. أو، انه مستمع فوق العادة، يصغي بكل انتباه ويفكر مليئاً بما يُقال ويبدو كأنه بعيد فيما الواقع انه في صلب الحديث. لم يسبق لصاحبة هذا المقال ان التقت أوباما شخصياً، انما صَدَف ان التقت ماكين في خمس مناسبات، كل منها تركت أثراً ما. ولالقاء الضوء على جزء من شخصيته (بأمل أن تكون هناك فرصة للقيام بالمثل إذا سنحت فرصة للتعرف على أوباما)، هنا نبذة عن تلك اللقاءات. أولها قبل 14 سنة أثناء مؤتمر «مركز نيكسون للسلام» بواشنطن عام 1984 حيث أدار ماكين ندوة شاركت فيها كمتحدثة وحرص عند انتهائها على تقديم بطاقة تعريف به للتعبير عن اهتمامه باللقاء ثانية في مكتبه بمجلس الشيوخ للتعرف بصورة أعمق على قضايا الشرق الأوسط والخليج. وأثناء «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس، حدثت لقاءات عدة معه وهو يتنقل بين الندوات كمستمع حيناً وكمتحدث تارة، انما دائماً بحثاً عن جديد يتعلمه وليس فقط للإدلاء بآرائه، معظم الأوقات رافقته زوجته سندي بابتسامة صامتة. وفي عشاء خاص مع الصحافة بدافوس وكنت جالسة الى يمينه، تحدث عن العراق بعمق سياسي وعلم بالتفاصيل وهدوء. لكن أثناء فترة الأسئلة العامة، ثار غضبه علناً عندما سأله صحافي عن تجاوزات القوات الأميركية هناك بصورة استفزت فيه نزعة الرفض القاطع للتجريح بالجندي الأميركي، فخلع الديبلوماسية وأنزل بالصحافي وبلاده وأصله وفصله لكمة تلو الأخرى. ثم بعد بضع سنوات، كذلك في دافوس، وكان شبه وحيد في دعوته الى تعزيز اعداد القوات الأميركية في العراق، توقف مطولاً للأخذ والرد (سيما وان هذه الزاوية تحدثت تكراراً حينها، وقبل لقائه، عن الحاجة لتعزيز القوات تحضيراً للانسحاب). يوم توجه ماكين الى نيويورك قبل أشهر للإعلان تلفزيونيا عن اعتزامه ترشيح نفسه، التقيته صدفة في مطار لاغرواديا بنيويورك على الرصيف يرافقه مساعد فقط. توقف للسلام انما ليس عابراً بل اغرق في الحديث حوالى عشرة دقائق على الرصيف ساعياً وراء آراء وليس معبّراً حصراً عن رأيه، متناسياً انه في عجلة الى يوم تاريخي في حياته. لا يجوز الحكم القاطع على رجل سمحت الظروف بإمضاء ما مجموعه ساعات محدودة معه، إلا أن تلك المعرفة وفي حقبات وظروف مختلفة تركت انطباعاً واضحاً بأنه رجل يفكر باستقلالية، لا ينقاد بسهولة وراء نصائح المساعدين، وله مواقف صارمة لكنه مستعد للأخذ والرد، يفقد أعصابه إذا أستُفزّ ويوجه لكمة موجعة لمستنفريه، يفكر بعقله ولا يعجبه ايكال التفكير للآخرين، يفعل بيديه ولا يستذوق أن يكلف الغير بالنيابة عنه. كيف ستنعكس هذه الصفات على أساليب تناوله الملفات الدولية، من روسيا والصين الى زيمبابوي وسورية. الذين يعتبرون أنفسهم مقربين منه ليسوا من رأي واحد لكنهم يكادون يجمعون على ما قاله أحدهم: «ماكين وحده يملك الجواب اليقين عن السؤال». ملامح تفكيره تفيد بأنه «مثالي-واقعي»، بحسب تعبير مقرب منه، «يؤمن بأن الولاياتالمتحدة مميزة، لكنه واقعي في عدم فرض ميزاتها على الآخرين»، وهو «انتقائي لكنه ليس متزمتاً ايديولوجياً، لذلك، لن يسعى وراء حروب الديموقراطية التي سعى وراءها بوش عندما ظن ان غزو العراق واحتلاله سيكونان نقطة انطلاق نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط. لن يدفع الصين رغماً عنها ليزجها غداً في زاوية الديموقراطية. وفي الوقت ذاته لن يخضع لنزوات بوتين ويخافه بل سيواجهه من منطلق القوة وليس من منطلق الضغط وتكبيل الأيادي في العراق أو غيره. وأيضاً، ملامح تفكيره لا تفيد بأنه مستعد لمغامرات على نسق الشعارات الخطيرة التي أطلقها المحافظون الجدد ك»الفوضى الخلاقة» في الشرق الأوسط والخليج كاستراتيجية تضرب الاستقرار بصورة منظمة. لن يوافق على بدع كبدعة القيادة السورية عن «الحوار من أجل الاستقرار»، ولا على أفكار البعض في حلقته من دعاة اعطاء «الاستقرار» مركزية قصوى دائماً، والحوار مع أي كان، أو تسويف وتجميد العدالة حرصاً على الاستقرار. فرغبة بعض المحيطين به في «تجميد» المحكمة الدولية للبنان فيما يُصنع «الاستقرار» عبر سورية برعاية فرنسا وقطر واسرائيل وتركيا، هي رغبتهم الخاصة، ويرجّح ألاّ تلاقي مكاناً لها في تفكير وفكر ماكين. آراء كهذه ليست من ملامحه. فهو رجل عسكري يرى الأمور كثيراً بأبيض وأسود ومن زاوية «من هم الشباب الصالحون ومَن هم الشباب الرديئون» كما قال أحد الذين يعرفونه جيداً. فإذا فكّر بلبنان، فكَّر من زاوية تفاصيل واضحة بحيث يحسب ان حزب الله= ايران=جمهورية اسلامية في لبنان=قاعدة لإيران. وإذا فكر بسورية، قد يفكِّر من زاوية العلاقة الأفضل بينها وبين اسرائيل سيما في مفاوضات تؤدي الى الصلح واتفاقية السلام. إلا أنه لن يجمد أو يضع على الرف المحكمة الدولية لمعاقبة الضالعين في الاغتيالات السياسية في لبنان وفي مطلعها اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، أولاً لأنه لن يتدخل في مجرى العدالة، وثانياً لأن المحكمة في أيادي الأممالمتحدة، وثالثاً لأنه لا يوافق على صفقات تحييدها لإرضاء نظام أو للحصول على مساعدته في العراق، ورابعاً لأنه لا يؤمن بشعارات على نسق الحوار من أجل الاستقرار أو دفع فاتورة الاستقرار بمكافآت تأهيل لمن ضربه سابقاً أو بتحييد العدالة من أجل الاستقرار. الأرجح، أن أوباما يفكر بالمثل عندما يتعلق الأمر بالمبادئ التي تتحكم بالعلاقات مع الدول والمنظمات. قد يختلفان في مكانة وأولوية وطريقة وشروط وأهداف التحاور، وقد يتفقان في نهاية المطاف. فلا أحد منهما يتوجه الى البيت الأبيض ليفجر حرباً جاهزة مع أية دولة كانت. الأرجح أنه مع وصول أحدهما ستتضح نتائج ايكال السياسة الأميركية الخارجية في الشرق الأوسط والقوقاز الى ساركوزي، على ما تفعل ادارة بوش الآن. وقد يكون من اولى الخطوات الضرورية ليس فقط التفكير بنوعية العلاقة الجديدة مع روسيا وانما صياغة شراكة تجددية مع الدول الأوروبية. ساركوزي يتمتع بأدواره ويتصرف وكأنه السوبر رئيس لأوروبا-أميركا. حتى الآن لم يحقق انجازاً ولا اختراقاً بل يدخل طرفاً في تحالفات اقليمية-دولية على نسق «الرباعي الجديد»، كالقمة في دمشق، راغباً بتشييد السلام السوري-الإسرائيلي عبر تركيا، وحالماً بعلاقة طبيعية بين لبنان وسورية تصيغها قطر. إذا نجح في هدفه الأكبر، وهو تشغيل ود «الرباعي الجديد» مع ايران، لربما حفر لنفسه موقع قدم مهم مع الرئاسة الأميركية الجديدة. أما إذا فشل، فلن تبقى السياسة الأميركية في الشرق الأوسط والقوقاز موكلة اليه لمدة طويلة. فالمؤسسة الأميركية تعرف تماماً أولوياتها الحقيقية وعنوانها اليوم هو «الاتفاقية الأمنية» مع العراق والتي تصنعها الأيادي الأميركية بمساحة عراقية.