الأهرام: 10/9/2008 الخشية الكبري أن يمر الوقت سريعا كعادته, وينسي الناس والحكومة معا كارثة انهيار المقطم في منطقة الدويقة, والخشية أيضا أن تذهب التحذيرات التي قال بها بعض الخبراء الجيولوجيين من أن المؤشرات الظاهرة للعيان تنبئ بأن انهيارات أخري قد تحدث قريبا في مناطق اخري من جبل المقطم نظرا لطبيعته الجيولوجية وكونه من حجر جيري قابل للتفتت بفعل الماء وعوامل التعرية الأخري أدراج الرياح. ليست هذه المرة الأولي التي ينهار فيها جزء من الجبل علي هؤلاء السكان الذين اضطرتهم ظروفهم وقسوة الحياة أن يعيشوا في باطن الجبل, متوهمين انهم في حمايته, فإذا به يغدر بهم وينهار عليهم, يقتل البعض منهم تارة ويصيب آخرين تارة أخري, ويبدو أن هذه الصورة لن تتوقف في المستقبل, فلا الحكومة قادرة علي حل مشكلات هؤلاء من مسكن ملائم وبيئة آمنة وفرصة عمل, ولا الناس أنفسهم الذين اعتادوا نمط حياة قاسيا بكل المعايير يريدون التغيير أو المجازفة بتجربة نمط حياة جديدة في مكان آخر وبيئة أخري, والنتيجة أن تحدث الكارثة بين وقت وآخر. وليست هذه أيضا المرة الأولي التي سوف نسمع فيها عن خطط أعدتها الحكومة لتطوير مناطق عشوائية بعينها, باعتبارها الأكثر إلحاحا مقارنة بمناطق أخري يمكن تأجيل تطويرها أو تأخير إزالتها الي حين آخر, ولن تكون الأخيرة أيضا التي نسمع فيها شكوي عدد من المسئولين المعنيين بهذا الملف الخطير اجتماعيا وأمنيا وانسانيا, عن عدم تجاوب اهالي هذه المناطق أو تلك مع الاجراءات التي تتخذها الدولة, ورفضهم الخروج من منازلهم الآيلة للسقوط وهم يعلمون يقينا أنها سوف تقع حتما فوق رؤوسهم. ولن تكون المرة الأخيرة أيضا التي سوف نسمع فيها العويل والبكاء, ونري انهارا من الدموع مصحوبة بصرخات الاحتجاج علي أداء الحكومة الضعيف وفساد المحليات التي تحول دون وصول المساكن البديلة لأصحابها الحقيقيين, أو عدم اهتمامها أساسا بمطالب وشكاوي الفقراء والمستضعفين من الناس. هذه العناصر مجتمعة تكررت في السابق, وليس هناك مايحول أن تحدث في المستقبل القريب, والسبب ببساطة متناهية أن هناك شيئا خاطئا يحدث منذ سنوات طويلة يمثل جذر المشكلة, والتخلي عنه يمثل جذر الحل, فكثير من المشكلات التي نفاجأ أحيانا بحدوثها معروفة اصلا لدي المتخصصين من الباحثين والعلماء, كما هو معروف أيضا الحلول العلمية التي تعالج تلك المشكلات, لكن الأمور لا تحدث كما يفترض لها أن تحدث, أي توضع نتائج الدراسات أمام المسئولين الذين يكون عليهم اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب, بل غالبا ما يحدث العكس, فلا يهتم المسئولون بالدراسات أو التوصيات العلمية, ويتخذون القرارات بصورة انتقائية, ويفضلون دائما أو غالبا تأجيل المواجهة الي زمن آخر, مما يزيد من وطأة المشكلة ويصبح الحل الممكن قبل عدة سنوات, امرا مستحيلا وباهظ التكلفة, وغالبا ما يفضل المسئول أن يؤجل مواجهة المشكلة طالما انها ساكنة في مكانها ولم تصل بعد الي حد الأزمة أو الكارثة الانسانية. هذا النمط ولد بدوره حالة من الشك المتبادل بين الناس في عمومهم والدولة بإجمالها, ومن هنا أخذ سلوك الناس يتجه الي التحايل علي القانون الذي لم يأت لهم بحقوقهم أو بكرامتهم من وجهة نظرهم, وهذه بدورها أولي لبنات العشوائية كنمط حياة يضرب بعرض الحائط مبدأي العقلانية في التفكير والرشادة في السلوك, ومع تراكم الشعور الجماعي بتخلي الدولة, تزداد درجة التحايل بما في ذلك ورود مسالك التهلكة برغم وضوحها, ولعل ذلك يفسر ولو جزئيا ان كل اهالي منطقة الدويقة تقريبا يدركون ان منازلهم التي يعيشون فيها والمبنية بدون تراخيص أو شروط سلامة والمقامة علي صخور متشققة تعطيهم كل يوم إشارة بأنها منطقة قلقة وقابلة للانهيار بين لحظة واخري, ومع ذلك فهم مصرون علي الحياة فيها الي ان يقضي الله امرا كان مفعولا. هنا يقول بعض الباحثين الاجتماعيين, الذين قاموا بدراسات ميدانية في عدد من هذه الاحياء والمناطق العشوائية, ان ساكني تلك المناطق من الفقراء والمهمشين, والبعض منهم خارج علي القانون من جراء تورطهم في تجارة المخدرات أو الدعارة أو السرقة, أو ما يعرف بالاقتصاد غير الرسمي الأسود, قد اعتادوا نمط الحياة بعيدا عن الدولة, ففي هذا البعد أمانهم ورواج مهنتهم, ومن ثم فهم دائما يبدون الحرص الشديد علي استمرار هذا النمط في المناطق التي يصعب علي الدولة ان توجد فيها, ولذا فهم يقاومون السلطات حين تريد ان تتدخل في هذا النمط من الحياة, سواء بإبعادهم عن هذه المناطق الي مناطق بديلة, أو من خلال تطوير هذه المناطق بما يعنيه ذلك من تكثيف دور الدولة فيها. البعض الآخر من هؤلاء الباحثين يرون ان سكان هذه المناطق, وان وجد بينهم بعض الخارجين علي القانون, فهم في النهاية فقراء ومهمشون وقد اعتادوا نمط حياة معين مرتبط بتكلفة معينة ومصدر رزق محدد, وكعادة المصريين الذين يستصعبون التغيير أو الانتقال الي بيت آخر أو حي آخر فإنهم عادة ما يفضلون البقاء حيث هم, حتي ولو انطوي الأمر علي مخاطر مؤكدة, وهو مايطرح اشكالية كبري بالنسبة لاستراتيجية تطوير العشوائيات والتي تتضمن إزالة بعضها التي يستحيل الحفاظ عليها أو تحسينها جزئيا, وهذه الاشكالية ثقافية سلوكية مرتبطة بكيفية إقناع هؤلاء بأن البقاء حيث هم يعني هلاكهم, وأنه لا بديل سوي المجازفة بتغيير نمط الحياة نفسه, والاعتياد علي نمط آخر, والواضح طبعا أن هذا الجانب الثقافي السلوكي لا وجود له في استراتيجية مواجهة العشوائيات التي أعلن عنها في عام2005 بتكلفة تصل الي5 مليارات جنيه, تصرف حتي عام2025, ويبدو أن مجمل هذه الاستراتيجية يواجه عقبات أخري اضافة الي غياب البعد الثقافي فيها. هذه المشكلة ليست بسيطة كما قد تبدو علي السطح, فنحن هنا نتعامل مع سلوك ومصالح حياتية لأناس محدودي التعليم, وليس لهم من هم سوي متابعة حياتهم يوما بيوم, وهم محملون بكل معاني عدم الثقة في الحكومة ومؤسساتها المختلفة, الأمر علي هذا النحو يتطلب صياغة برامج اعلامية واعية ومشاركات من المجتمع المدني والقطاع الخاص والاعلام الحكومي, علي ان تستمر هذه الحملات لفترات متتابعة من الزمن, وتتضمن أيضا عمليات إعادة تأهيل لموظفي المحليات الذين يقع في نطاق عملهم التعامل مع سكان المناطق العشوائية. الجانب الآخر من صعوبة هذه المواجهة يتعلق بنسبة هؤلاء الذين يعيشون في مناطق عشوائية الي اجمالي حجم السكان, وبرغم عدم وجود أرقام محددة, فإن الارقام التقريبية المتاحة سواء من مؤسسات مصرية أو دولية تتحدث عن نسبة10% من اجمالي عدد السكان, أي ثمانية ملايين نسمة كحد أقل, ونسبة18% كحد أقصي أي نحو15 مليون نسمة كتقدير الأممالمتحدة, والبعض يصل الي أن25% من سكان مصر يعيشون في مناطق عشوائية بدرجة أو بأخري, وإذا اخذنا بأي من هذه التقديرات فكلها مخيفة وتؤشر الي صعوبة المهمة خاصة في ضوء توزعهم علي مايقرب من1100 منطقة في عموم الجمهورية, منها ما يقرب من88 منطقة عشوائية في نطاق القاهرة الكبري, اكثرها عبئا منطقة منشية ناصر وتوابعها. لكن النقطة الأهم هنا هي أن سياسة الحكومة في مواجهة العشوائيات تبدو غير مكتملة الاركان, ولنقل غامضة ومترددة بعض الشئ, وهو ما يطرح قضية البعد الاجتماعي لسياسات الحكومة, لاسيما ما يتعلق بمواجهة الفقر من جانب, وتأمين المسكن الملائم للفئات محدودة الدخل أو الفقيرة من جانب آخر, بالاضافة الي قضية التخطيط العمراني الذي يستهدف تطوير مستوي حياة الناس وليس فقط تجميل المخططات العامة للطرق ومناطق السكن, وبالتوازي مع ذلك إلزام الناس بالبناء وفقا للمعايير والاشتراطات القانونية, ومواجهة مخالفات البناء التي باتت مستشرية الي درجة مخيفة, فوفقا لدراسة أجرتها جامعة القاهرة قبل عامين فإن نسبة مخالفات البناء ارتفعت الي مايقارب90% من اجمالي العقارات المبنية, وفي بعض أحياء القاهرة وصلت الي94% كالوضع في حي السلام, والي96% كما هو الحال في حي عين شمس, ناهيك عن أن قرارات الإزالة التي تجاوزت عدة آلاف ولم يطبق منها شيء لعجز الجهات المعنية عن القيام بواجباتها القانونية. جملة ما سبق يعني ان حادثة الدويقة ليست في الواقع سوي انعكاس لتراكمات من المشكلات المتعلقة بنمط التنمية في مصر طوال العقدين الماضيين, ومادام ان وجهة التنمية الاجتماعية لم تتضح أبعادها بعد, وفي الوقت نفسه يزداد الميل نحو إرضاء فئات اجتماعية بعينها علي حساب فئات اخري, ويعجز القانون عن أن يكون السيد الأوحد في علاقة الناس بدولتهم, فلن يكون انهيار المقطم سوي حلقة من بين حلقات مقبلة. المزيد في أقلام وآراء