الأهرام 7/8/2008 من مأثور قول الإمام علي بن أبي طالب, كرم الله وجهه: لو كان الفقر رجلا لقتلته! والواقع أن الفقر مثل الإرهاب, ينبغي القضاء عليه باقتلاع جذوره. وكما أن الجذر الأول المفرخ لجنود الإرهاب ينبت من' فكر منحرف' عن مقاصد العقيدة, يدفع قادته للدعوة إلي قتل من يتصورونه أعداء تفسيرهم للنص الديني, فإن الجذر الأول المولد للفقر المعاش ينبثق عن فكر منحاز لمصلحة الأغنياء, يقود منظروه إلي مضاعفة الفقر المطلق والنسبي لضحايا' منظريهم للاقتصاد الحر'! واستهداف المناطق والسكان الأشد فقرا, شأن استهداف جماعات وبؤر الإرهاب, ليس إلا مجرد إسعاف أولي لا غني عنه لوقف نزيف الضحايا من الفقراء والقتلي, لكن إقتلاع جذورهما ضرورة لحفظ الكرامة والحياة. والواقع, أن تكريس وتعميق الإحساس بالفقر يرجع بالأساس إلي عدم كفاءة النظام الاقتصادي, سواء في ذلك اقتصاد الأوامر بتجاهله أن الاقتصاد ينبغي أن يكون' اقتصاديا', بمعني ترشيد استخدام الموارد النادرة لإشباع الحاجات المتزايدة, وبمعني إعلاء معايير الكفاءة والانتاجية وربحية مؤسسات الأعمال العامة, فلم يتعد الحصاد توزيعا عادلا للفقر! أو الاقتصاد الحر بما يترتب عليه من عدم كفاءة استخدام الموارد من منظور المصلحة العامة وإن تعاظمت الثروة الفردية للقلة, وما يقود إليه من: إحتكار يقتل المنافسة, واختلال في توزيع الثروة والسلطة, وفرض لأسعار غير عادلة وغير مبررة, وتهديد للاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي نتيجة تفاقم البطالة والكساد والفقر, وإهدار للحكم الرشيد وحقوق المواطنة, إلا حين تحول إلي اقتصاد سوق اجتماعي, تجنبا لخطر الثورة غالبا, واستجابة لنداء الإصلاح أحيانا! ولا تقل أهمية في تفسير الفقر عوامل أخري في مقدمتها: إهدار المسئولية الاجتماعية والأخلاقية لرجال الأعمال بسعيهم لتعظيم أرباحهم الخاصة علي حساب ربحية المجتمع, وتجاهلهم للمصالح المشروعة لجميع الأطراف المتأثرة بالمشروع من المستهلكين والمنافسين وغيرهم. والفقر نتاج منطقي لتبديد الإدخار الممكن بنزعة الاستهلاك المفرط, وتشوه توزيع الاستثمار بغلبة التوظيف غير الانتاجي والعقاري الترفي علي حساب الاستثمار الانتاجي, وتكريس تضارب المصالح بتزاوج الثروة والسلطة. وأما انفلات الفساد والانفجار السكاني فكلاهما نتيجة وسبب للفقر, بتبديد وابتلاع الموارد اللازمة للاستثمار. وفي سياق التفكير في مستقبل الاقتصاد المصري, ومن منظور تطور الفكر الاقتصادي لمكافحة الفقر يوفر مرجعا ثمينا كتاب' تاريخ الفكر الاقتصادي..الماضي صورة الحاضر' للأستاذ الأمريكي جون كينيث جالبريث, أكتفي بإيجاز بعض من استنتاجاته الجوهرية: أولا, أن الرأسمالية في ظل الاقتصاد الحر- من فجر الثورة الصناعية وحتي مطلع القرن العشرين- كانت معادية للإصلاح الاجتماعي والعمل الخيري الهادف إلي تخفيف شقاء وتعاسة الفقراء. وقد وجدت الرأسمالية في توحشها من المنظرين من حمل الفقراء أسباب بؤسهم وحرمانهم. وكان هربرت سبنسر, منظر الفردية وصاحب العبارة الخالدة البقاء للأصلح, يري أن الطبيعة قد انتخبت الأثرياء لتفوقهم الطبيعي علي الفقراء, وأن الدولة لا ينبغي أن تتدخل لتصحيح التفاوت الاجتماعي وتخفيف الشقاء! ويلاحظ جالبريث أن هذه الداروينية الاجتماعية لا تزال تظهر حتي اليوم في: المقاومة الشديدة لقيام الدولة بدور في حماية الضعفاء, والزعم بأن: الفقر ثمرة إفراط الطبقات الدنيا في الإنجاب مع تجاهل أثر التنمية علي ضبط النسل! وأن الإحسان يضر ولا ينفع, وأن رجل الاقتصاد لا يعني بالعدالة أو بالرحمة, وأن الحديث عن الظلم الاجتماعي أمر دخيل علي الاقتصاد! وثانيا, أن تضخم ثروة الرأسماليين تم تبريره بأنه مقابل امتناعهم عن الاستهلاك الجاري, وتوفيرهم للأموال اللازمة لتأسيس المصانع والمشروعات. بيد أن الامتناع عن الإنفاق- كما لاحظ جالبريث- لم يكن واضحا في عادات إنفاق الأغنياء الجدد من كبار الرأسماليين الصناعيين وأصحاب البنوك, المفرطين في أسرافهم والمتفاخرين بثرائهم! ولم يوجد تفسير معقول للعائد علي رأس المال إلا حين بات ينظر إلي الربح علي أنه مكافأة الابتكار والمخاطرة, وينظر إلي الفائدة باعتبارها ضرورة لتعبئة الإدخار من أجل الإستثمار. وتزيد مخاطر اختلال توزيع الدخل حين تحبط آمال الفقراء في تحسين حياتهم, ليس بالمقارنة مع ما كان يوجد لديهم من قبل, بل بمقارنة الفرق المفزع بين أجورهم ومستويات معيشتهم البائسة وبين دخول ومستويات استهلاك الأغنياء أرباب الأعمال. وثالثا, أن الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كان سبيل دحر دعوة الماركسية إلي الثورة, وأن خطوات الإصلاح التي اتخذتها المجتمعات الرأسمالية في مواجهة النقد الماركسي للرأسمالية ونقاط ضعفها أدينت في حينها باعتبارها' شيوعية'! ويرصد جالبريث أن المصلحين الليبراليين قد تبنوا الكثير مما ورد في' البيان الشيوعي', الذي دعا إلي: فرض ضرائب تصاعدية علي الدخل, والملكية العامة للخطوط الحديدية والمواصلات, ومجانية التعليم, وحظر تشغيل الأحداث, وتوفير فرص العمل للجميع. ولكن ذلك لم يكن غير مجرد بداية, حيث أتي بعد ذلك التأمين الاجتماعي والتأمين ضد البطالة والتأمين الصحي وإعانات الإسكان والتدريب علي الوظائف. كما ازدادت قوة نقابات العمال ونالت حماية الدولة ونجحت في تخفيف بؤس العمال, وظهرت دولة الرفاهة, ورفع كينز كابوس الكساد والبطالة عن عاتق الرأسمالية حين صارت الدولة مسئولة عن أداء الاقتصاد القومي... إلخ. والأهم هو ما طورته الرأسمالية, خاصة الصناعية, من قوي إنتاجية وتقنية هائلة, مكنت من تعظيم نصيب العمال والفقراء من الثروة القومية بتوفير العمل اللائق ومضاعفة الدخل. ورابعا, يرد جالبريث علي أسئلة ترددت ألف مرة: هل كان بالإمكان منع الثورة أو استباقها لو نفذت مطالب الإصلاح؟ ولماذا قاومت دوائر الأعمال سياسات الإصلاح الهادفة إلي حماية النظام الاقتصادي؟ ولماذا تنظر إلي الاصلاحيين علي أنهم أعداء للنظام القائم شأنهم شأن الماركسيين, بل إن أشد خطرا؟.. يرد بأن الأثرياء وذوي الامتيازات, عندما يكونون فاسدين وعديمي الكفاءة, لا يقبلون الإصلاح الكفيل بإنقاذهم! ويرفضون التنازل عن المباهج والرفاهة في الأجل القريب تجنبا للأهوال والكوارث في الأجل البعيد! ويستمتعون بالكسب في مباراة يخسر فيها الكثيرون! ويخلص إلي أن نظام' السوق الحرة' لم يعد مقبولا, وأن الاشتراكية تراجعت كبديل محتمل, وذلك قبل أن تنهار بعد نشر كتابه! وفي شهر رمضان الكريم نشهد اتساعا محمودا لنطاق الإحسان الي الفقراء باقامة موائد الرحمن وتوزيع حقائب الغذاء, بدوافع فريضة الزكاة ونبل القصد ووازع الضمير, غالبا, دون نفي حوافز الغرض الدنيوي للتظاهر بالتقوي والخداع السياسي, أحيانا! لكن الأهم أنه إذا كانت أمم آسيا الناهضة قد وظفت منظومة قيمها الثقافية لمحاربة الفقر بالتنمية, فالأحري أن يتذكر المسلمون ما يتناسونه خلال رمضان وبعده- من قيم دينهم الحنيف, التي تحض علي الإعمار والعدل والإدخار والعمل والإتقان والعلم وتنبذ الفساد والغش وغيرهما مما يستهدف تصفية أسباب الفقر! أقول هذا, وأحذر من شراك الخداع التي نصبتها شركات' توظيف الأموال' المسماة إسلامية, ومن الخلط بين' قيم الاسلام' الواجب الاقتداء بها في النشاط الاقتصادي وبين شعوذة دعاة الدولة الدينية بإقامة' نظام اقتصادي إسلامي'! المزيد من الأقلام والآراء