مع تصاعد وتيرة العدوان العسكري، والتوسع الاستيطاني، وفرض الحصار الاقتصادي على قطاع غزة، كان من الطبيعي أن يتراجع الاقتصاد الفلسطيني وتقوض تنميته؛ حيث بات هناك أكثر من 70% من سكان القطاع تحت خط الفقر، كما ارتفعت نسبة البطالة إلى أكثر من 50%. وأمام هذا الواقع.. حملت حركة «حماس« - المسيطرة على قطاع غزة - ملفات مهمة وضعتها على طاولة البحث في اجتماع القاهرة الذي أعقب تحطيم الجدار الحدودي بين القطاع ومصر بهدف الهروب من مآسي الحصار الإسرائيلي - فيما سمي أزمة المعابر - وقد حملت هذه الملفات ما يؤكد سعي «حماس« إلى إنهاء التبعية الاقتصادية للقطاع إلى إسرائيل وإلحاقها بمصر، ولاسيما فيما يخص التزود بالكهرباء والوقود وإمكانية التعامل بالجنيه المصري والدولار بديلاً عن الشيكل الإسرائيلي. وكانت وجهة نظر «حماس« أن من شأن ذلك تعزيز الانفصال، وكذلك تعزيز مجالات التنمية في القطاع، خصوصًا في ظل عدم التزام تل أبيب بما تعهدت به، حيث قلصت كميات الوقود التي تسمح بدخولها إلى القطاع على نحو لا يغطي أكثر من 10% من حاجته، مما أدى إلى إغلاق جميع محطات البنزين، وانقطاع التيار الكهربائي كليًا، إضافة إلى حرمان نصف سكان القطاع من المياه النقية. وبطبيعة الحال أثارت هذه الخطوة جدلاً واسعًا، بين مرحب ومستنكر ومستغرب، حيث لاقت تلك الخطوة صدى إيجابيًا داخل إسرائيل، وهو ما تجسد في صدور تصريحات ترحب بفك الارتباط لتكون المرة الأولى التي تلتقي فيها الرؤية الإسرائيلية رؤية حماس، فالدولة العبرية تحاول منذ انهيار الجدار الحدودي الفاصل بين قطاع غزة ومصر استثمار الوضع الجديد للتملص من مسؤولياتها وتصدير الأزمة إلى القاهرة. وعلى الجانب المصري، فرغم إعراب بعض الجهات العربية عن استعدادها لتمويل المشاريع في حالة موافقة الجانب المصري عليها، فإن مصر تعاملت معها وفق أطر قانونية وأخلاقية بعيدًا عن الضجيج الإعلامي والتصعيد اللذين تريد إسرائيل من خلفهما التنصل من مسؤولية القطاع؛ حيث رفضت القاهرة هذه المطالب، لسببين :- أولهما قانوني، ويتجسد في أنه في حالة الموافقة على انفصال غزة اقتصاديًا عن إسرائيل، ستكون الأخيرة بذلك غير مسؤولة عن توفير الاحتياجات الطبيعية والضرورية لسكان القطاع باعتبارها قوة احتلال. وثانيهما عملي، فمصر ليست لديها ولاية أو التزامات تجاه غزة، فضلاً عن أن قطاع غزة لا يمكن التعامل معه باعتباره أرضًا منفصلة؛ فالسلطة الشرعية التي لها ولاية على ما يجري في غزة هي السلطة الوطنية برئاسة «محمود عباس«، وأن مجرد وجود ظرف طارئ لا يترتب عليه أي تغير في الطبيعة القانونية للقطاع أو الضفة. وبعيدًا عن هذا التجاذب بين التأييد الدولي والإقليمي والرفض المصري والفلسطيني المتمثل في السلطة الوطنية الفلسطينية، فإن المزايا الاقتصادية من فك الارتباط الاقتصادي ستبقى محدودة، ولن يستفيد منها إلا الجانب الإسرائيلي، في ظل سيطرته على المعابر الحدودية، وهو ما يعني أنه سيظل المسيطر الفعلي على الأداء الاقتصادي والاجتماعي للفلسطينيين في غزة، بل إن الأمر يتعدى إلى عدم قدرة سكان القطاع على القيام بنشاطهم الاقتصادي (تجارة - استثمار - نقل العمالة من وإلى القطاع). إضافة إلى ذلك.. فإنه في حال تنفيذ سيناريو فك الارتباط فسوف تزداد القيود المشددة على تصدير المنتجات الزراعية والمنتجات الأخرى من غزة؛ فضلاً عن تقييد حركة العمالة الفلسطينية بين القطاع وبين إسرائيل، مما يعني مزيدًا من التضييق المتواصل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وزيادة البطالة. وسياسيًا.. فإن فك الارتباط يخدم الأهداف الإسرائيلية؛ حيث سيعني في جانب منه تحمل مصر المسؤولية عن حماية إسرائيل، انطلاقا من تحملها المسؤولية الإدارية في قطاع غزة.. ويضاف إلى ما سبق إمكانية طرد تل أبيب لعرب 48 إلى أراضي الضفة وغزة، مما سيحدث فائضًا بشريًا قد يدفع إلى التدفق إلى الأراضي المصرية على نحو ما حدث مؤخرًا. ومن المتوقع أن يتخذ المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية والأمنية قرارًا مبدئيًا بشأن طريقة تعامل إسرائيل مع قطاع غزة.. ولا يخفى أن حكومة «أولمرت« في غمار أزمة الحصار على غزة واجتياح سكانه الأراضي المصرية قد عرضت نقل مسؤوليات سلطة الاحتلال الإسرائيلي عن قطاع غزة باعتبارها قوة احتلال مسؤولة عن تدبير الشؤون المعيشية للقطاع بموجب المواثيق الدولية إلى مصر، على أن يتضمن ذلك أن تعود الأخيرة لتولي المسؤولية الإدارية عن القطاع، وهو ما يؤكده اعتراف المصادر الإسرائيلية بأن تشديد العقاب على سكان غزة بتقليص إمدادات الوقود والكهرباء والمواد الأساسية هدف تحديدًا إلى دفع حماس للبحث عن مصادر أخرى للمساعدة، وتحقيق الفصل التام بين القطاع وبين إسرائيل . أما على الجانب الفلسطيني، فربما يؤدي ارتباط القطاع الذي يمثل جزءًا من الكتلة الجغرافية الفلسطينية، بدولة أخرى إلى ايجاد صراع داخلي في البيت الفلسطيني والتأثير سلبًا في تطوير دولة فلسطينية مستقلة ذات اقتصاد قوي من خلال تعميق الخلافات بين السلطة من جهة وحركة «حماس« من جهة أخرى؛ حيث يعوق ذلك القدرة على وضع برنامج اقتصادي لإصلاح الخلل القائم حاليًا في البنية أو الهيكل الإنتاجي الفلسطيني الذي برز بشكل أكثر حدة في العام الماضي 2007، إذ تم عزل الأراضي الفلسطينية المحتلة عن الأسواق العربية والإقليمية والعالمية، ثم تجزئة تلك الأراضي، وهو ما نجم عنه خسارة قدرت ب 2،1 مليار دولار من الإيرادات في الفترة من 2000 إلى 2005، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2006 بنسبة 6،6% مقارنة مع عام 2005، كما تراجعت أنشطة الصناعة والإنشاءات والخدمات بنسب 6% و12،9% و3،2% على التوالي، مما خفض من مستويات المعيشة للأفراد، فقد انخفض نصيب الفرد من الدخل الإجمالي بنسبة 15% في عام 2006، وذلك بفعل انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6،6%، بسبب الانخفاض الشديد في مستويات الاستثمار، الذي واجه ظروفًا مليئة بالمخاطر. وأمام الصورة السابقة.. يبدو أن المسألة أكبر من تسهيل عملية الدخول والخروج من غزة، فهي مرتبطة أساسًا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ومساعدة الفلسطينيين على الدخول في عملية تفاوضية جدية، حتى يحصلوا على حقوقهم كاملة. فقضيتا الأمن والتنمية وجهان لعملة واحدة، ولذا يجب التوحد والتخلص من الانقسام الراهن، ولاسيما في ظل الوضع الشائك المحيط بالاقتصاد الفلسطيني الذي جعل التعامل معه لا يقتصر على المتغيرات الاقتصادية والفنية فقط، بل يتجاوزه إلى المتغيرات السياسية المحلية والإقليمية والدولية التي تشكل في مجموعها البيئة العامة للنموذج الفلسطيني المتطلع للتنمية، كما أن السعي لإعادة تأهيل الاقتصاد واستعادة مساره التنموي خلال سنوات الاحتلال وإزالة تشوهاته يقتضي وجود حل جذري من خلال الضغط على المجتمع الدولي لكي تقوم إسرائيل بالالتزام بتنفيذ القانون الدولي باعتبارها دولة احتلال عبر مواصلة تزويد الفلسطينيين بالكهرباء، والماء، والغاز والوقود، وتسهيل دخول العمال إليها؛ وكذلك تسهيل نقل البضائع بين قطاع غزة والضفة الغربية و«إسرائيل« والخارج؛ وإعادة النظر في كيفية تنفيذ ترتيبات الضرائب والجمارك والبريد والاتصالات. فضلاً عن إنهاء الحصار المفروض وفتح المنافذ والمعابر أمام حركة التجارة من دون قيود، عبر تنفيذ ما تضمنه اتفاق المعابر 2005 بهذا الخصوص، كما ينبغي الضغط على إسرائيل للتوقف عن بناء جدار الفصل العنصري وإزالة ما تم بناؤه استنادًا إلى قرار الأممالمتحدة الصادر في 20/7/2000 الذي أقرت فيه الجمعية العامة حكم محكمة العدل الدولية الصادر في 9/7/2004 بعدم شرعية بناء هذا الجدار ورفع جميع الحواجز التي تعوق حركة المواطنين. وأخيرًا.. لا يبقى إلا القول: إن حل أزمة قطاع غزة الراهنة ليس في فك الارتباط باقتصاد وربطه باقتصاد آخر، وإنما الحل يكمن في إقناع المجتمع الدولي بتبني مفهوم التنمية المشتركة للعمل في الأراضي الفلسطينية، بحيث تتعاون كل الأطراف ذات الصلة لإنجاز التنمية سواء بالضغط على إسرائيل للسماح بإقامة مشروعات تنموية وعدم اتباع سياسة العقاب الجماعي، أو تقديم كل الدعم الفني والمادي.. وقبل كل ذلك إعلاء الفرقاء الفلسطينيين المصلحة العامة على حساب المصلحة الخاصة.. ونخص بالذكر الرئيس الفلسطيني ومن معه.