في البداية، أتوا من أجل أجهزة ''آي بود'' وبعد ذلك من أجل امتلاك الشقق في ''مانهاتن'' و''ميامي'' أما اليوم فقد جاؤوا من أجل شراء الشركات، فهذه الأيام، يغتنم الأوروبيون فرصة انخفاض قيمة الدولار لشراء كل أنواع الشركات الأميركية، في ما يبدو تيارا يتوقع أن يكون أكثر ديمومة وأكبر من حيث تداعياته من رحلات التسوق التي يقوم بها الأوروبيون إلى أميركا من أجل اقتناء الأدوات الإلكترونية أو الشقق. في هذا السياق قال أحد رجال الأعمال في ''كلوفيس'' بكاليفورنيا: ''إنني لست قلقا من الأثرياء العرب، بل إن الفرنسيين هم الذين يثيرون مخاوفي''، مشيرا إلى شركة فرنسية خاصة كانت قد اشترت للتو شركة كبيرة في مدينته، في إشارة إلى ''بيلكو'' -شركة مختصة في صناعة أنظمة الفيديو الأمنية- واشترتها شركة ''شنيدر إليكترونيكس''. وأضاف قائلا: ''ستتغير حياتنا جميعا الآن، وقد كانت هذه الشركة تشكل جزءا مهما من الأهالي في هذه المدينة على مدى عدة سنوات''. الواقع أنه لا يوجد شيء خاص أو متميز بخصوص صفقة بيع شركة ''بيلكو''، فالشركات الأجنبية تشتري نظيراتها الأميركية دائما، والعكس صحيح، كما أن قيمة هذه الصفقة أقل بكثير من استثمار أبوظبي (7,5 مليار دولار) في ''سيتي-غروب''، مثلا، أو استثمار الصين (3 مليارات دولار) في ''بلاك-ستون غروب''، غير أن بيع ''بيلكو'' يندرج في إطار تيارٍ ما فتئ يزداد ويتقوى في هدوء، إذ تستعد الولاياتالمتحدة لاستقبال تدفق ضخم -وغير مسبوق ربما- للمستثمرين الأوروبيين الكبار والمتوسطين في وقت تتوجه فيه الشركات الأوروبية بمختلف أحجامها -من العملاقة إلى العائلية- إلى أميركا من أجل رحلة تسوق. ولنسميه ''غزوا أوروبيا''، فالكثير من الشركات الأميركية لن يصبح ملاكها أوروبيين فحسب، بل إن الأسواق الأميركية ستتغير أيضا بعد قدوم متنافسين أجانب سيصنعون منتجاتهم في الولاياتالمتحدة، حيث ستستعمل هذه الشركات قاعدتها الجديدة هناك من أجل تصدير منتجاتها إلى العالم -بما في ذلك أسواقها الأوروبية- والتوزيع في السوق الأميركية من داخل الحدود، وسيكون لهذا التحول العابر للأطلسي تأثير بالغ على مستويات التوظيف والتصدير في أوروبا، كما سيشعل بدون شك نقاشات ساخنة على جانبي الأطلسي، إذ سيندد الساسة الأوروبيون بهذه الشركات لأنها ''تصدر الوظائف'' إلى الولاياتالمتحدة، في حين سيستشيط الساسة الأميركيون غضبا، وهم المتوجسون أصلا من تهديد المنافسة الخارجية، بسبب ما سيصفونه ب''الاستيلاء الأجنبي على أميركا''. لماذا تحدث هذه الأمور الآن؟ السبب الرئيسي يعزى إلى أن انخفاض قيمة الدولار الأميركي جعل التحرك إلى الضفة الأخرى من الأطلسي أمراً تستطيع الكثير من الشركات الأوروبية تحمله ماديا، وهي فرصةً قد لا تتكرر، ذلك أنه نادرا ما كانت الشركات الأميركية بهذا الرخص، فقبل خمس سنوات، كانت تحتاج شركةٌ ألمانية أو إسبانية تريد الاستحواذ على شركةٍ أميركية منافِسة بقيمة 500 مليون دولار مثلا إلى 550 مليون يورو تقريبا من أجل شرائها. أما اليوم، فلا يتطلب ذلك سوى 319 مليون يورو. والواقع أن انجذاب الشركات الأوروبية إلى الولاياتالمتحدة لا يعزى إلى انخفاض قيمة الدولار فحسب، فقد أضحت أوروبا بيئة تجارية منفرة وأقل جاذبية من نظيرتها الأميركية، وهكذا، بات الانتقال إلى الضفة الأخرى من الأطلسي يمثل الطريقة الأسرع والأرخص بالنسبة لكثير من الشركات لخفض الكلفة وزيادة التنافسية، ذلك أن متوسط أجر ساعة عمل في أوروبا مثلا هو أعلى ب16 في المائة من نظيره في الولاياتالمتحدة، كما أن التأمين الاجتماعي والضرائب على الأجور أعلى بكثير، وكذلك الحال بالنسبة لكلفة الطاقة، حيث يمثل متوسط سعر الكهرباء الخاصة بالاستعمال الصناعي ضعفَ ثمنها تقريبا في أميركا، وكذلك الحال بالنسبة لكلفة النقل. والواقع أن جاذبية الاستثمار في الولاياتالمتحدة من حيث الكلفة لا تتوقف عند هذا الحد، فالأرض في الولاياتالمتحدة أرخص بكثير مقارنة بأوروبا، إذ يكلف فدان أرض ما متوسطه 1900 دولار، في حين تكلف بقعة من نفس الحجم 14500 دولار في الدانمارك، و6600 دولار في إسبانيا، و5700 دولار في ألمانيا. ومن جهة أخرى، هناك المنافسة القوية والشرسة في الاقتصاد العالمي، فرغم أن بعض الشركات الأوروبية قد تستعيض عن الانتقال إلى أميركا بإقامة مصنع في آسيا أو أوروبا الشرقية (وقد يكون أرخص من الولاياتالمتحدة)، إلا أن معظمها مازالت تنظر إلى الولاياتالمتحدة باعتبارها الوجهة التي تشرئب إليها شركات العالم، فقد قال مدير شركة صناعية إيطالية مؤخرا: ''إذا كنتُ أريد لشركة العائلة أن تستمر، فلا بد أن آتي إلى الولاياتالمتحدة''، مضيفا: ''لن يكون ذلك أرخص فحسب، وإنما سيضعني أيضا والمهندسين العاملين لدي وسط كوكبة كبيرة من شركات التكنولوجيا المتطورة وفي أكبر سوق في العالم، إننا نعتزم الاحتفاظ ببعض عمليات التصميم في إيطاليا، ولكن جل العمليات ستتم في ماساتشوسيتس''. الحقيقة أن بعض مظاهر ''الغزو الأوروبي'' بدأت تظهر وتتضح منذ بعض الوقت، إذ تستثمر شركة ''تايسين-كروب إي. جي.'' الألمانية 3,7 مليار دولار في مصنع للفولاذ في ''ألباما''، وتبني شركة ''آلستوم'' الفرنسية، المتخصصة في صنع القطارات عالية السرعة، مصنعا كبيرا في تينيسي، كما قررت شركات أوروبية أخرى مثل شركة ''فيات'' الإيطالية دخول السوق الأميركية مجددا بعد فترة غياب طويلة، في حين تقوم شركتا ''بي. إم. دبليو.'' و''ديملر'' بتوسيع مهم لوجودهما الصناعي في الولاياتالمتحدة، ومؤخرا تعدت القيمة السوقية لمصرف ''بانكو سانتاندير'' الاسباني وفق عملية حسابية قمتُ بها، قيمةَ ''سيتي-غروب'' الذي يعد متزعم القطاع المصرفي في الولاياتالمتحدة والواقع أنه بالنظر إلى أن أزمة الرهن العقاري جعلت العديدَ من المؤسسات المالية الأميركية أرخص ثمنا فمن الطبيعي أن يتوقع المرء قيام بنوك أوروبية مثل ''سانتاندير'' بتوسيع وجودها في أميركا. سيكون من الصعب على الساسة الأميركيين وقف ''الغزو الأوروبي''، تماما مثلما سيكون الساسة الأوروبيون عاجزين عن تلافي انتقال شركاتهم إلى الولاياتالمتحدة وإذا كانت عرقلة بعض الاستثمارات الكبيرة التي تقوم بها صناديق مملوكة للحكومات في الموانئ الأميركية وصناعات الدفاع وشركات النفط أمرا ممكنا فإن منع الآلاف من الشركات الخاصة من الاستثمار في الولاياتالمتحدة ليس كذلك فعلى الرغم من أن الأوقات الاقتصادية العصيبة تخلق دائما فرصا سياسية للديماغوجيين والشعبويين إلا أن الولاياتالمتحدة ليست مستعدة للتخلي عن الرأسمالية.