نقلا عن الاهرام 29/1/08 يستحق الإسرائيليون منا شكرا خاصا, لا ينتقص قطرة من بحر كراهيتنا لهم لأن حماقة إظلام غزة كشفت بشاعة جريمتهم وأحرجت أصدقاءهم وألجمت أبواقهم. (1) حين سمعت أحد زملائنا يتحدث بحماس شديد عبر شاشة التليفزيون عن حق الفلسطينيين في العيش مستنكرا الحملة الإسرائيلية لتجويعهم وتدمير حياتهم تذكرت قصة الرجل الذي هرول غاضبا باتجاه الحدود الإسرائيلية, وحين سئل في التحقيق عن السبب في ذلك كان رده أنه سمع أن اليهود صلبوا السيد المسيح فلم يستطع أن يكتم غضبه وقرر الانتقام منهم. زميلنا الهمام- وبعض أقرانه ونظرائه- بلغهم أخيرا بعد اقتحام معبر رفح, أن إسرائيل قررت تجويع الفلسطينيين وخنقهم ولم يسمع بالخبر إلا يوم الثلاثاء الماضي(1/22) بعد48 ساعة من القرار الإسرائيلي بقطع الكهرباء ومنع الوقود والمياه عن غزة في حين أن الحصار مضروب منذ ثمانية أشهر حين تسلمت حركة حماس السلطة في غزة في منتصف يونيو من العام الماضي. إذ منذ2007/6/14 وطوال الأشهر التي خلت, كانت الادوية والاغذية ومختلف مقومات الحياة ووسائل الانتاج في غزة حتي تحول القطاع بمضي الوقت إلي جحيم تستحيل في ظله الحياة علي مليون ونصف مليون مواطن. خلال تلك الاشهر كان خنق غزة يتم ببطء وفي هدوء, وكل العالم العربي فضلا عن العالم الخارجي, جميعهم ذاهلين عن حجم الجريمة وعمقها, ومن أسف أن بعض العرب كانوا شركاء في الحصار والتجويع, ولكن قرار الإظلام الاخير أيقظهم من سباتهم بحيث لم يعد لدي احد عذر لكي يدعي انه لم يسمع بما جري. (2) قرار الإظلام لم يكن مفاجئا للفلسطينيين الذين اعتبروا الحصار وحملة العقاب الجماعي فصلا في سجل اسرائيل الاسود الذي عانوا من عذاباته منذ ستين عاما علي الاقل المفاجأة كانت في اسرئيل لأن الاستهتار والغرور أعمياها عن ادراك حقيقة معدن الشعب الفلسطيني ووعيه. ذلك أنهم في تل أبيب ظنوا أنهم حين يخنقون القطاع ويعذبون أهله فإنهم سيثورون علي السلطة القائمة ويسقطون حكومة حماس, ولكن الذي حدث أدهشهم, لأن أهل غزة لم ينتفضوا ضد الحكومة ولكنهم كانوا واعين جيدا بأن الذي يحاول تدمير حياتهم هو الاحتلال واعوانه حتي ذكرت دراسة خاصة لقياس الرأي العام ان شعبية حماس ارتفعت في القطاع بعد الإظلام من39% إلي41%, وبالتالي فإن الانتفاضة وجهت ضد الاحتلال, واندفع الناس صوب معبر رفح. تحدثت الصحف الاسرائيلية في الاسبوع الماضي عن ان موظفي وزارة الدفاع المسئولين عن متابعة الاوضاع في غزة ظلوا في مكاتبهم حتي ساعة متأخرة في ليلتي الاحد والاثنين الماضيين(20 و21 يناير), وهم يتابعون علي شاشات التليفزيون المشهد في القطاع بعد قرار قطع التيار الكهربائي عنه وفي الوقت ذاته كانوا يتابعون التقارير المقدمة من اجهزة المخابرات التي قدمت لوزير الدفاع الاسرائيلي إيهود باراك وتحدثت عن امكانية خروج الفلسطينيين في مظاهرات عارمة ضد حكومة حماس بعد قطع إمدادات الوقود الذي يستخدم في تشغيل محطة الكهرباء الرئيسية إذ افترضت تلك الأجهزة ان الجمهور الفلسطيني سوف يحمل حكومة حماس بالمسئولية عن ذلك الواقع. عبر عن ذلك بشكل صريح رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود اولمرت في كلمته التي ألقاها امام حزبه( كاديما) يوم الاثنين1/14 عندما قال ان الضغوط الاقتصادية علي الفلسطينيين في القطاع تهدف الي دفعهم للتخلص من نظام حماس الإجرامي علي حد تعبيره لكن وكما نقل التليفزيون الاسرائيلي مساء اليوم ذاته فإن أولمرت وكبار موظفي وزارة الدفاع اصيبوا بخيبة امل كبري عندما تبين ان مظاهرات ضخمة عمت غزة وجميع ارجاء العالم العربي, ليس ضد حماس ولكن ضد اسرائيل وكما قال المعلق الاسرائيلي يارون لندن فإن اسرائيل ادركت اثر ذلك انه كلما مارست الضغط علي الفلسطينيين وبررت ذلك الضغط بسيطرة حماس علي القطاع, ابدي الفلسطينيون المزيد من التضامن مع حماس وحكمها. (3) لقد تعاملت مصر الرسمية بواقعية وحكمة مع ما جري ولخصت موقفها في امرين, اولهما السماح مؤقتا بفتح معبر رفح وثانيهما دعت فتح وحماس الي حوار يعالج الموقف ويحتويه ومن حيث المبدأ فإنني لست قلقا من الموقف الرسمي المعلن ولكن اخشي من محاولات البعض إفساد الاجواء الإيجابية التي عبر عنها ذلك الموقف عن طريق الإيقاع بين السلطة في القطاع وبين مصر او لي حقائق المشهد والترويج لمعلومات خاطئة تحقيقا لاهداف مشبوهة فالقول أن اقتحام الجماهير الفلسطينية للمعبر اعتداء علي السيادة المصرية, والزعم بأن السلطة في القطاع تحاول لي ذراع مصر واتهام الفلسطينيين بأنهم اعتدوا علي قوات الأمن المصرية وجرحوا منهم36 شخصا بعد إطلاق النار عليهم ونسبه ذلك إلي مسلحي حماس مثل هذه الادعاءات إما أن تكون تعبيرا عن قصر النظر او عن محاولة الدس والوقيعة, لا تختلف كثيرا عن ادعاء اسرائيل ان من شأن فتح المعبر ان يسرب الإرهابيين الي دلتا مصر, وان يفتح الباب واسعا لتهريب السلاح الي غزة. هذه الادعاءات تتجاهل تماما ان ثمة كارثة انسانية في القطاع, الذي اغلقت منافذ الحياة فيه منذ سبعة اشهر في حين انه اعتاد في السابق ان يستقبل يوميا800 شاحنة من خارجه, توفر له احتياجاته المختلفة واذا كنا نتحدث عن مليون ونصف مليون مواطن عاشوا في ظل تلك الاوضاع بالغة القسوة خلال الاشهر الثمانية فإن هذه الخلفية تفسر لنا الانتفاضة التي كسرت الحاجز لتوفير الحاجات التي حرم منها الناس طول الوقت. لست أنفي ما حدث من اشتباكات, لكني ادعو الي الشك في دوافعها والعناصر المحركة لها. كما ادعو الي ان تأخذ حجمها الطبيعي, بحيث لا تحجب الحقائق الاساسية التي حركت الجماهير صوب الحدود المصرية. لقد سمعت احد المثقفين المصريين يقول إن حماس مسئولة عن إقدام اسرائيل علي حصار القطاعلأنها ومعها حركة الجهاد الإسلامي دأبتا علي إطلاق الصواريخ علي المستوطنات الإسرائيلية. وهذا كلام يروج له الإسرائيليون في كل مكان, ولم ينطل علي الشعب الفلسطيني, صحيح أن عناصر حماس والجهاد تطلق الصواريخ بين الحين والآخر علي إسرائيل. لكن كثيرين ينسون أن ذلك لا يتم إلا ردا علي الغارات الإسرائيلية اليومية التي تقتل الفلسطينيين, وينسون أن حماس والجهاد التزمتا بالتهدئة في السابق, ولكن إسرائيل لم توقف عدوانها طول الوقت وينسون أيضا أن حماس طرحت إقامة هدنة متبادلة لعدة سنوات, تكون ملزمة للجانبين, ولكن الاقتراح رفض. والسبب في ذلك أن الإسرائيليين يريدون هدنة تلزم المقاومة الفلسطينية وحدها, في حين تطلق اليد لإسرائيل لكي تعربد في الأرض المحتلة كيفما شاءت. وهو مطلب لا يمكن لعاقل لديه ذرة من الكرامة الإنسانية أن يقبل به. ثمة حجة أخيرة تتحدث عن إحراج مصر, بسبب تعارض الموقف الراهن مع اتفاقية المعابر التي وقعت في عام2005 بين الفلسطينيين والإسرائيليين, بمقتضاها أصبح الاتحاد الأوروبي طرفا في مراقبة المعابر. وهذه الاتفاقية التي مثل الطرف الفلسطيني فيها السيد محمد دحلان- وهو من هو- سلمت الإسرائيليين مفاتيح خنق الفلسطينيين, علي النحو الذي تجلي في حصار القطاع وخنقه. ولست أري سببا وجيها للحرج المصري, فمصر ليست طرفا في اتفاقية المعابر, ثم إن إسرائيل آخر من له الحق في الحديث عن الالتزام بالاتفاقيات, لأنها لم تلتزم بأي اتفاق وقعته بخصوص الشأن الفلسطيني( واستمرار التوسع في الاستيطان بعد مؤتمر أنا بوليس ليس ببعيد). كما أنها لم تلتزم بأي قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة باستثناء قرار تقسيم فلسطين وتأسيس الدولة في عام1948. ثم إن مصر بوسعها أن تقول إن قطاع غزة جزء من أمنها القومي, وأنها لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي أمام الكارثة الإنسانية التي فرضتها إسرائيل علي أهله. أما مطالبة مصر بالمشاركة في خنق القطاع وأمانته فتلك هي الجريمة الحقيقية التي تريد إسرائيل من الدول الأخري أن تتواطأ معها لأجل تنفيذها. (4) ما العمل إذن؟ لقد دعت مصر إلي حوار بين حركتي فتح وحماس لحل الإشكال, وهو ما رحبت به حماس. ولكن قيادات السلطة في رام الله رفضت الدعوة بطريقة غير مباشرة حين اشترطت أن تعيد حماس الأوضاع إلي ما كانت عليه قبل منتصف يونيو2007 وتتراجع عما سماه أبومازن بالانقلاب الذي وقع في القطاع( لاحظ أن أبومازن في مفاوضاته مع الإسرائيليين لا يضع أي شروط رغم كل ما ترتكبه من جرائم). وفكرة الانقلاب هذه أكذوبة روجت لها مختلف الأبواق الإعلامية لتبرير الطلاق بين فتح وحماس وافشال تجربة حكومة الوحدة الوطنية. وقد تمسكت بها بعض عناصر السلطة للتحلل من الشراكة مع حماس, والانطلاق في مسار التسوية التي فرضتها إسرائيل. وكنت أحد الذين طالبوا من البداية بتشكيل لجنة لتقصي حقائق الانقلاب المزعوم, الذي قامت به حكومة منتخبة لوقف تمرد الأجهزة الأمنية التي عملت منذ إعلان نتائج الانتخابات في عام2006 علي شل حركتها وإشاعة الفوضي في القطاع. ثم بعد ذلك أبقت علي كل المؤسسات الباقية كما هي بما فيها مؤسسة الرئاسة, الأمر الذي يدعو إلي التساؤل عن حقيقة السلطة التي وجه ضدها الانقلاب. ولو أن اللجنة تحرت جيدا ما جري لاكتشفت أن عناصر السلطة هي التي قامت بالانقلاب علي الشرعية وعلي التاريخ والجغرافيا في فلسطين. معلوماتي أن أبومازن لن يدخل في حوار مع حماس, وأن حكاية التراجع عن الانقلاب ليست سوي غطاء لأمر آخر يعرفه جيدا المتابعون للملف الفلسطيني. ذلك أن استمرار القطيعة مع حماس شرط أمريكي وإسرائيلي لاستمرار دعم جماعة السلطة في رام الله. وهذا الكلام قاله صراحة توني بلير قبل ثلاثة أسابيع في لقاء خاص لصديق أعرفه وربما أتيح لي أن أنشر تفاصيل ذلك اللقاء المثير في وقت لاحق. إزاء ذلك فلست أري حلا في الوقت الراهن سوي أن يتم التفاهم بين مصر وحكومة حماس, وليكن هدف التفاهم هو كيفية معالجة الكارثة الانسانية في غزة عن طريق فتح الباب لدخول البضائع والاحتياجات الحياتية المختلفة, مع السماح بخروج المرضي وذوي الحالات الخاصة. شريطة أن يخضع الدخول والخروج لرقابة السلطات الأمنية المصرية من جانب ولشرطة القطاع الفلسطينية من جانب آخر. لقد صغرت القضية وجري تفتيتها, فلم يعد التحرير هدفا ولا العودة حلما, حتي تراجع الشعار عائدون عائدون ووجدنا أنفسنا أمام عنوان آخر هو عالقون وعابرون إننا نتقهقر إلي الوراء بسرعة بأكثر مما ينبغي. الى مزيد من الاراء والملقات